الخبز بين الدعم المزعوم والتضخم المقنّع... المواطن هو الخاسر الأكبر

الخبز بين الدعم المزعوم والتضخم المقنّع... المواطن هو الخاسر الأكبر

في بلد يعيش أزمة اقتصادية خانقة، يتحول رغيف الخبز من «خط أحمر» إلى سلعة مشروطة، تعاد هندسة دعمها مراراً وتكراراً، بحيث يصبح بقاءه في متناول يد المواطن رهناً بالتخلي عن جزء جديد من القوت أو الكرامة.

التصريحات الرسمية الأخيرة حول كلفة الخبز تكشف واقعاً قاتماً، ليس عن تقليص الدعم سيراً نحو إنهائه وتحرير سعره فقط، بل عن آلية منهجية رسمية لإعادة تشكيل أعباء المعيشة على حساب المواطن.

من الدعم إلى القضم... تسلسل الأرقام يفضح التوجهات

في منتصف كانون الثاني 2025، صرح مدير «السورية للمخابز» محمد صيادي عبر «شام إف إم» أن كلفة كيلو الخبز على الحكومة تبلغ 40 سنتاً (أي نحو 5200 ليرة بسعر صرف 13000 ليرة للدولار بحينه)، بينما يباع للمواطن بنصف السعر، أي 20 سنتاً (2650 ليرة).

كانت الربطة حينها بوزن 1500 غرام وسعرها 4000 ليرة، ما يعني أن تكلفتها الفعلية للحكومة تصل إلى 7800 ليرة، مما يشير إلى دعم بقيمة 3800 ليرة للربطة، أي 2550 ليرة لكل كيلو غرام.

لاحقاً، تم خفض وزن الربطة إلى 1200 غرام دون تغيير سعرها (4000 ليرة)، بالتوازي مع تعديل سعر الصرف الرسمي إلى 12000 ليرة للدولار. هذا يعني أن كلفة الكيلو حسب التسعير الجديد أصبحت 4800 ليرة (تعادل 40 سنتاً)، أي إن كلفة الربطة بوزن 1200 غرام أصبحت 5760 ليرة.

وفق هذه الأرقام، الدعم انخفض إلى 1760 ليرة للربطة، ما يعادل 1465 ليرة لكل كيلو. أي إن المواطن خسر 1085 ليرة من قيمة الدعم لكل كيلو غرام خبز مقارنة بالأشهر القليلة السابقة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن حكومة تسيير الأعمال، عند أول استلامها لمهامها بعد سقوط سلطة النظام نهاية العام الماضي، كانت قد خفضت الدعم على الخبز بنسبة كبيرة جداً، حيث كانت الربطة بوزن 1200 غرام بسعر 400 ليرة (الكيلو بسعر 333 ليرة)، ثم أصبحت بوزن 1500 غرام لكن بسعر 4000 ليرة (الكيلو بسعر 2665 ليرة)، بخسارة مرهقة جداً للمواطن لقاء كل كيلو بمبلغ 2332 ليرة دفعة واحدة!

تكلفة مفاجئة وغير مبررة... أين تذهب الفروقات؟

في مطلع أيار 2025، خرج المدير ذاته بتصريح جديد لجريدة «الحرية السورية»، قال فيه إن كلفة الربطة بوزن 1200 غرام وصلت إلى 8500 ليرة، في حين لا تزال تُباع بـ 4000 ليرة. أي إن الدعم المعلن الآن هو 4500 ليرة للربطة.

لكن هذه الكلفة الجديدة أثارت تساؤلات واسعة:

حسب البيانات السابقة، فإن كلفة الربطة كانت 5760 ليرة، أي إن هناك زيادة مفاجئة وغير مبررة بمقدار 2740 ليرة.
هذا يعني أن كلفة الكيلو ارتفعت إلى 7083 ليرة، مقارنة بـ 4800 ليرة سابقاً، أي بزيادة 2283 ليرة لكل كيلو!
والأسوأ من ذلك، وللمفارقة، أن كلفة الكيلو حسب تقديرات حكومة السلطة الساقطة منتصف 2024 (المليئة أصلاً بالفساد والنهب والهدر) كانت 7800 ليرة للربطة بوزن 1200 غرام (الكيلو بمبلغ 6500 ليرة)، أي إن الكلفة الحالية أعلى منها بمقدار 700 ليرة بكل ربطة، على الرغم من أن سعر الصرف الرسمي انخفض من 13500 على زمن السلطة الساقطة إلى 12000 ليرة للدولار حالياً (أي تحسّن نسبي بنسبة 12,5%)، كان من المفترض أن ينعكس انخفاضاً على التكلفة وليس زيادة فيها!
كل ذلك يشير إلى معادلة واحدة: التضخيم المتعمّد في التكاليف.
فهل ارتفعت هوامش النهب والفساد والهدر على أيدي السلطة الحالية؟ أم إن هناك نية مبيتة؟
البيانات الجديدة تعزز الشكوك بأن التضخيم في التكاليف هو تمهيد لتبرير رفع سعر الربطة أو تخفيض وزنها مجدداً، مع الإعلان الصريح بأن ذلك يصب بخانة تحرير سعر الخبز، لكن بالاستناد إلى التكاليف المضخمة وغير المبررة أعلاه، والتي تحافظ على هوامش النهب والفساد والهدر!
فتحرير سعر الخبز وفق التكلفة المعلنة والمضخمة أعلاه تعني أن على المواطن أن يستمر بتحمل كل هوامش النهب والفساد والهدر، القديمة والمستجدة!
أما الحديث عن «تحسين وزيادة دخل المواطن»، أو عن «تحسن في جودة الرغيف»، فهو لغو إعلامي ليس إلا!
فبدلاً من معالجة النهب والفساد في سلسلة الإنتاج والتوريد والتوزيع، أو تطوير كفاءة الدعم، يتم اللجوء إلى أسهل الحلول: قضم جديد من جيب المواطن الفقير، وزيادة عوامل نهبه المتزايدة، والحفاظ على هوامش الفساد على حسابه!
وفي ظل استمرار تجاهل الحلول الجذرية، يبدو أن «تحسين الدخل» الذي يتم التذرع به كل مرة يبقى وعداً فضفاضاً لا ينعكس فعلياً على أرض الواقع، فيما تسجل الأسعار قفزات متتالية لا تراعي لا الحد الأدنى للأجور ولا الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية.

الانعكاسات المباشرة... المواطن يدفع الثمن

النتيجة العملية لكل ما سبق تتلخص في الآتي:
تقليص فعلي للدعم المقدم للمواطن رغم استمرار التصريحات بخلاف ذلك.
زيادة غير مبررة في التكاليف تثير شبهة استمرار النهب والفساد أو التلاعب بالأرقام.
تآكل الكميات المقدمة من الخبز مقابل السعر نفسه، مما يخلق فجوة غذائية متزايدة.
خلق مبررات تمهيدية لرفع الأسعار أو تقنين إضافي للتوزيع.
التمهيد لتحرير سعر الخبز بالكلفة المضخمة وغير المبررة.
ومع كل ذلك، تستمر اللغة الرسمية بالتمنين والتبرير، وكأن المواطن هو من يجب أن يشكر السلطة على السماح له بالحصول على رغيف، بينما في الواقع يتحمل أعباء فسادها وهدرها المتراكم.

الرغيف المحاصر والمواطن المحروم

تبدو السياسة الحالية في التعامل مع ملف الخبز مثالاً مصغراً عن الأزمة الكبرى في إدارة الاقتصاد والمتمثلة بالنقاط الآتية: غياب الشفافية- تضخيم النفقات- استمرار هوامش الفساد- واستخدام المواطن كوسيلة ضغط وتبرير للفشل.
وفي كل الحالات، يبقى الرغيف محاصراً، والمواطن محروماً، «والدعم المزعوم» مجرد شعار في نشرات الأخبار.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1226