العصا السحرية للكشف عن آثارنا حوار مع الدكتور محمود حماد حول النهب الحالي والسابق للآثار السورية
تتزايد في الفترة الأخيرة إعلانات على شبكات التواصل الاجتماعي لبيع أجهزة كشف المعادن، تلك التي تستخدم بشكل رئيسي في الكشف عن الذهب وهذه الإعلانات موجهة إلى الداخل السوري.
رغم أن التنقيب غير الشرعي عن الآثار بغرض البحث عن الكنوز الذهبية الدفينة ليس جديداً في سورية لكن هذه الحالة المتفشية اليوم تدعو حقاً إلى القلق، فقد أصبح الهوس القديم الموجود لدى بعض الأشخاص بالبحث عن الكنوز نوعاً من الممارسة المرضية، حيث يشتري بعض المنقبين غير الشرعيين جهازاً بقيمة تقارب السبعة آلاف دولار ويحملون معهم مولدة كهربائية في شاحنة صغيرة وتبدأ رحلة البحث عن دلائل وجود الرصد أو الكنز من زهرة إلى نجمة وغيرها من الدلائل التي يدّعون معرفتها.
وليست هذه (الكنوز) أي الآثار التي يجدونها إلا حلقة في سلسلة نهب آثار هذه البلاد التي لم تتوقف، ويتم بيعها عبر الإنترنت وعبر تجار متخصصين في تهريبه بعد تقدير قيمتها عبر (خبراء).
تلتقي قاسيون مع الدكتور محمود حماد مدير الآثار والمتاحف الأسبق ليعطينا رأيه فيما يجري.
دكتور محمود باعتبارك خبيراً في قضايا تهريب الآثار وتزويرها، بطبيعة مهنتك ودراستك، ما هو حجم الآثار التي يجري التنقيب غير الشرعي عنها حالياً وهل يمكن مقارنة الوضع الحالي بما كان يجري سابقاً قبل وأثناء الحرب في سورية؟
سورية متخمة بعشرات آلاف المواقع الأثرية، بلغ عدد المسجل منها على قائمة التراث الوطني حتى الآن أقل من أربعة آلاف موقع. وهي تنتشر على كل تضاريس البلاد وبيئتها من أعماق البادية إلى ذرا الجبال ووهادها في مناطق مأهولة أو خالية من السكان. ومن هنا يصبح من الصعب الحفاظ على هذه المواقع وحمايتها بالشكل المطلوب، حتى في أوج حضور الدولة وتشديد القوانين التي تجرِّم الاعتداء على الآثار. وقد اندثرت فعلاً في الماضي كثير من المواقع الأثرية ونهبت مقتنياتها وأزيلت أبنية وأحياء تاريخية وتراثية.
لقد كانت الحرب منذ بدايتها وبالاً على التراث الثقافي وممتلكات الشعب السوري، وقد تزايدت وتيرة الانتهاكات التي يتعرض لها هذا التراث بعد التغيرات التي حصلت وانتصار الثورة. فبدأ الناس وكل من تسكنه هواجس الكنوز، حملة شعواء على المواقع الأثرية، ترافقت مع انتشار حمَّى أجهزة البحث عن الذهب والدفائن، في مشهد معيب ومخجل يدل على حجم الجهل الذي وصل إليه قسم كبير من مجتمعنا السوري. طالت هذه الحملات معظم المواقع الأثرية، وكذلك الأماكن غير الأثرية على مساحة الوطن.
مع عدم وجود توثيق حقيقي لما ينهب حالياً، ما الذي نفقده حقاً؟
لا أحد يعلم حقيقة ما نهب جرَّاء هذه التنقيبات غير الشرعية، الذي تستخدم فيه أحياناً آليات ثقيلة وبلدوزرات. ولا يمكن لأحد أن يملك إجابة دقيقة عن قيمة وحجم الخراب الحاصل. لكن الكارثة كبيرة ونأمل من الدولة الجديدة أن تسارع إلى بسط سلطتها الرسمية وتردع العدوان الواقع على تلالنا ومواقعنا الأثرية وتحفظ ما بقي منها. كما نأمل أن تدعم مديرية الآثار والمتاحف لتمكينها من القيام بمسؤوليتها في حفظ التراث السوري وحمايته والعناية به وترميمه بعد سنوات عجاف من الإهمال وعدم الاهتمام لأسباب مختلفة.
ما مدى صحة التسريبات التي تتحدث عن تهريب كبير كان يجري للآثار أثناء الحرب تحت إشراف الأمن العسكري؟
ليس لدي معلومات عن أن الأجهزة الأمنية في النظام البائد كانت تشرف على عمليات تهريب الآثار السورية، لا أستطيع أن أؤكد أو أنفي ذلك، لكن النظام كان غارقاً حتى أذنيه في الفساد، مع التنويه إلى أن كثيراً من الأفرع الأمنية ووحدات الجيش سلمت لمديرية الآثار والمتاحف آلاف القطع الأثرية التي صودرت من أماكن مختلفة، وقد استلمت بشكل رسمي وحفظت في مستودعات مديرية الآثار. ومن المؤكد لنا أن كل الجهات عبثت بالمواقع الأثرية أو لم تعمل على حمايتها كما ينبغي وتمنع الناس من الاعتداء عليها.
ما هو تاريخ تهريب الآثار في سورية بلمحة سريعة؟
تعرضت المواقع الأثرية إلى نهب وسلب واعتداء كبير، وطالما كان تراثنا الثقافي مستهدفاً في الفترات السابقة، إلا أن ما تعرض له منذ بداية الأزمة السورية لم يتعرض له أي تراث ثقافي لدولة في العالم، حتى التراثين الألماني والروسي في الحرب العالمية الثانية اقتصرت خسائرهما على تدمير بعض الأبنية والأحياء التاريخية في بعض المدن وأعيد ترميمها لاحقاً، أمَّا نحن فإضافة إلى الأبنية التاريخية والمدن القديمة والكنوز المعمارية فيها، فقدنا تلالاً أثرية تضم في طياتها مدناً قديمة تعود إلى حضارات متنوعة ومتميزة لا مثيل لها في العالم. ومن ينظر إلى صور بعض المواقع مثل ماري ودورا أوروبوس على الفرات، وإبلا وعين دارا وأفاميا وغيرها من المواقع في كل المحافظات، يدرك هول الكارثة التي حلت بتراثنا الثقافي السوري. ولا ننسى سرقة مقتنيات بعض المتاحف التي لا تقدر بثمن وذهبت إلى غير رجعة، ومنها متحف إدلب والرقة وتدمر وحمص وبصرى الشام.
يعتبر البعض أن كل شبر في سورية يحمل في عمقه آثاراً قديمة، ما هي أهمية سورية بالمعنى الأثري؟
الآثار السورية والمشرقية كانت عرضة للنهب منذ القديم، وقد ازدادت وتيرة النهب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ثم بداية القرن العشرين، حيث لم يكن للدولة العثمانية إدراك لقيمة المواقع الأثرية فأعطت تراخيص للتنقيب لكل الهواة الأوربيين وكان بينهم ضباط أمن ودبلوماسيون وموظفون يخدمون في سورية ولبنان والعراق ومصر وتركيا نفسها، فاستباحوا كثيراً من المواقع ونقلوا محتوياتها إلى بلدانهم التي تملأ الآن قاعات متاحفهم. بعد ذلك جاءت دولة الانتداب الفرنسي على بلادنا، ويسجل لها رعاية وحماية وكشف كثير من المواقع الأثرية ومنها مدينة تدمر الأثرية التي كانت بيوت سكانها بين أطلالها فعملت على إخراجهم منها وأظهرت معالم المدينة. وكذلك أسهمت البعثات الفرنسية في الكشف عن صفحات خالدة من حضارة سورية وتاريخها في مواقع ماري وأوجاريت وعمريت ومشيرفة حمص ودورا أوروبوس وغيرها. وقد نُقل كثير من المكتشفات إلى المتاحف الفرنسية، ولا سيما متحف اللوفر.
ظلت الآثار السورية بعيدة عن الاهتمام وعرضة للعبث، حتى صدور قانون الآثار السوري عام 1963 الذي أسهم في الحدّ من التطاول على الآثار والمواقع الأثرية دون أن يمنعه.
هل صحيحة هي الأقاويل التي تردد أن معظم الآثار السورية الموجودة في المتاحف هي مزورة وأن الأصلية منها جرى بيعها؟
معظم المقتنيات الأثرية في المتاحف السورية ومستودعاتها أصيلة وأصلية، ولا صحة لما يروج عن استبدالها بنسخ مزيفة. أمَّا المصادرات التي كانت تأتي للمديرية فتحتوي بعض القطع المزيفة. ومن المفيد أن نذكر أن كوادر مديرية الآثار لديها نقص كبير في الخبرة العلمية والعملية التي تجعلهم قادرون عل التمييز بين القطعة الأصيلة والمزورة وهذا أمر مؤسف حقاً، رغم الشهادات العليا التي يحملونها.
نرجو أن تقدم لنا رؤيتك عن كيفية حماية الآثار السورية، وما هي الإجراءات الضرورية الآن حسب خبرتك؟
طالما كانت مؤسسة الآثار يتيمة ووحيدة في نضالها للحفاظ عل تراثنا الوطني في ظل عدم اكتراث رسمي وشعبي، وهو دليل على غياب الوعي وتفشي الجهل. لذلك وللحفاظ عل ما تبقى وإنقاذ ما يمكن من إرثنا الثقافي، يجب إيلاء هذا القطاع كل الاهتمام ودعم إدارته وتوفير كل ما تحتاجه من إمكانيات مادية ولوجستية لتمكينها من ترميم وحماية المواقع الأثرية.
ثمة كثير من الأبنية والمدن الأثرية والتاريخية التي تحتاج إلى تدخل فوري وإسعافي لوقف تدهور حالتها الإنشائية التي تزداد سوءاً بفعل الإهمال وعوامل الطقس. إن ترميم هذا النوع من الأبنية وإعادة تأهيل ما تضرر بسبب الحرب يحتاج إلى مبالغ طائلة من الصعب توفيرها محلياً لذلك نرى ضرورة أن تبادر مديرية الآثار، بإدارتها الجديدة والواعدة، بالدعوة إلى عقد مؤتمر دولي لتأمين الدعم المالي والفني اللازم لصيانة وحفظ وتعافي التراث الثقافي السوري. ولا بد من قيام منظمة اليونيسكو والمؤسسات المنبثقة عنها المعنية بالمواقع والمدن الأثرية والمتاحف وغيرها بدورها في هذا الشأن ومساعدة السلطات السورية في حفظ وصيانة وحماية تراث البلاد وإعادة ما نهب منه.
كما أتمنى على الدولة الجديدة أن تعمل وبسرعة على فرض نفوذها على كل شبر من الأراضي السورية لوقف هذه المأساة التي تتعرض له المواقع الأثرية ومعاقبة الفاعلين.
لا شك أن الفقر هو أحد الأسباب التي قد تدفع الناس إلى البحث عن مصدر ثراء محتمل، لكن هيمنة الجهل وغياب الوعي بأهمية هذا التراث هو السبب الرئيس الذي أودى بجزء كبير منه وما زال يفتك بما تبقى. ولذلك من المهم في المرحلة القادمة العمل على رفع وعي الناشئة والأجيال الجديدة، وتعريفهم بالقيمة الحقيقة لتراث بلادهم الذي يُعد جزءاً مهماً من هويتهم الثقافية والروحية القادرة على جمع كل أطياف المجتمع السوري حولها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1215