نحو سورية الجديدة المداوية لجراح أبنائها والضامنة لحقوقهم
بعد سقوط النظام الذي أرهق البلاد والعباد بالحرب والحرمان، يأتي اليوم الذي يستبشر فيه السوريون باستعادة حقوقهم المهدورة وكرامتهم المسلوبة، لتشرق شمس الأمل بعد سنوات طويلة من الألم، ولتبدأ سورية فصلاً جديداً من تاريخها، تلوح في أفقها ملامح حياة كريمة وعادلة للجميع.
مقابل ذلك هناك في زوايا الذاكرة الجمعية، ستبقى مشاهد الحرب راسخة بألوان الألم، حيث لا يُمحى من الوجدان وجع من فقدوا أحبّاءهم، ولا أنين الآباء العاجزين عن سد جوع أبنائهم، فالحرب لم تكن معركة عسكرية فقط، بل كانت معركة وجدانية خاضها البسطاء كل يوم مع الفقد والخوف والحرمان.
ففي سورية، خلفت الأزمة جراحاً عميقة في أرواح المعذبين والمفقرين، الذين وجدوا أنفسهم فجأة يدفعون أثماناً باهظة لا ذنب لهم فيها سوى أنهم وُلدوا في قلب العاصفة.
ومع ذلك فإن لسان الحال المعمم للسوريين يقول اليوم لم يعد البكاء على الأطلال خياراً، فقد آن الأوان لبلسمة الجراح، والانتقال من مرحلة المعاناة والألم إلى مرحلة العمل المشترك والجاد لبناء سورية الجديدة، السيدة على كامل ترابها والمستقلة عن التبعية، والتي تضمن لأبنائها الكرامة والعدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
العدالة وبلسمة الجراح
ليس هناك وجع يضاهي رحيل الأحبة دون وداع، أن تودّع ابناً خرج ولم يعد، أو أباً لم يستطع النجاة من قذيفة عمياء، أو أمّاً انطفأت روحها خوفاً على صغارها، ففي الحروب، يصبح الفقد روتيناً يومياً، وتتبدل ملامح البيوت حين تغيب ضحكات أفرادها، حيث يقف الأب المكلوم أمام صورة ابنه الشهيد، يتحسس ملامحه بذاكرته، ويسأل نفسه ألف مرة «لماذا؟»، وهناك أمٌّ تنظر إلى سرير طفلها الفارغ، تتحسس ألعابه الصغيرة وكأنها تنتظر أن يعود ليحملها.
في هذه المواقف، لا تملك الكلمات القدرة على مواساة القلوب، لأن الألم في عمقه يتجاوز كل حدود اللغة وتعابيرها.
مقابل ذلك يدرك السوريون أن العدالة ليست مجرد شعار، بل حق أصيل مكفول لكل فرد، فلم يعد الفقد والحرمان والمعاناة مجرد حكايات بلا نهاية، بل أصبحت دافعاً لبناء وطن يحتضن جميع أبنائه دون تمييز.
فأولئك الذين فقدوا أحبّاءهم، والآباء الذين كابدوا الجوع من أجل أبنائهم، وكل الذين دفعوا ضريبة الحرب، يسعون إلى إعادة اعتبارهم، وتعويضهم عما فقدوه، فاستعادة الحقوق ليست أمراً قابلا للتفاوض، بل هي حجر الأساس لبناء دولة تحترم مواطنيها وتضمن لهم حياة كريمة في ظل سيادة القانون والدستور المنتظر.
طرد الجوع وضمان العيش الكريم
كان مشهد الطفل الجائع رمزاً لمعاناة سنوات الحرب، فمن أكثر الجراح إيلاماً أن ترى طفلاً يبكي من الجوع، بينما يقف أبوه أمامه حائراً وعاجزاً، تتصارع في داخله كرامته مع عجزه، فلم يكن هذا الأب يوماً متسولاً، لكنه اضطر أن يمد يده ليستجدي رغيفاً لصغيره، والوجع الأكبر كان في عينيه وليس في كفه الممدودة والمغلولة.
فجوع الأبناء لا يُختصر في ألم معدتهم الفارغة، بل في حرمان الأطفال من الأمان والدفء، في فقدانهم لحقهم في اللعب والتعلم، في اضطرارهم لأن يشيخوا قبل أوانهم، فالحرب سرقت من الأطفال طفولتهم، وجعلتهم يدركون قسوة العالم قبل أن يكتشفوا دفء حضنه!
لكن هذه الصورة المؤلمة يجب ألّا تتكرر في سورية الجديدة المنشودة، فمع البدء بانطلاق مسار الحل السياسي، يأتي الأمل بتحقيق العدالة الاجتماعية، حيث يعمل الجميع من أجل القضاء على الفقر وتأمين احتياجات الأسر السورية.
مع التأكيد على أن طموحات الناس لم تقتصر على لقمة العيش، بل حلمهم المشروع أكبر من ذلك ليشمل التعليم الجيد والرعاية الصحية الشاملة، والبيئة التي تتيح للأبناء النمو بكرامة، من خلال توزيع الموارد بشكل عادل، بالتوازي مع ضمان حقوق العمال والفلاحين وكل الغالبية المفقرة في البلاد، بالإضافة إلى محاربة الفساد وأوجه الاستغلال، كي تكون سورية المنشودة قادرة فعلاً على كسر دائرة الجوع والحرمان.
الحل السياسي طريق مفتوح
قد تبدو الجراح عميقة، لكن الشعوب التي تعرف معنى الألم هي الأقدر على صناعة الأمل.
فسورية اليوم تقف على أعتاب مرحلة جديدة، حيث تتوحد الإرادة الشعبية، وتتلاقى الجهود نحو بناء سورية وطناً للجميع، لا وطناً لفئة دون أخرى، أو على حسابها.
فبإرادة الشعب، وتحت مظلة الدستور والقانون، سيتحقق الوعد بسورية الأكثر عدلاً، والأكثر أماناً، والمنفتحة على الازدهار، فلا يجب أن يكون هناك مكان للخوف والحرمان في الغد المنشود، فالمستقبل تصنعه العقول الوطنية الواعية، والقلوب المؤمنة بسورية الوطن الأجمل والأعدل للجميع.
ولا يمكن تحقيق مستقبل مزدهر إلا بتكاتف جميع أبناء الوطن، بكل انتماءاتهم وتوجهاتهم.
فالحرب والأزمة قد تكون فرّقت القلوب، لكن الحوار الصادق والشفاف بين السوريين قادر على استعادة لحمتهم الوطنية.
ففي ظل نظام سياسي جديد يقوم على الشفافية والديمقراطية، يصبح الاختلاف في الرأي وسيلة لبناء الأفضل، لا سبباً للفرقة والتمييز.
فالسوريون، بجميع أطيافهم، أمام فرصة تاريخية للجلوس إلى طاولة الحوار، حيث تكون المصلحة الوطنية هي الغاية الوحيدة والأسمى.
والتكاتف لا يعني التنازل عن الحقوق، بل يعني الانتصار للمشترك الذي يجمع الكل ويحميهم.
فسنوات الحرب الطويلة التي فُرضت على السوريين علمتهم أن الحلول العسكرية لا تجلب سوى الدمار، بينما الحل السياسي هو وحده القادر على فتح باب الاستقرار.
فالخيار المفتوح في اللحظة الراهنة، والذي يجب الضغط من أجله، هو التوافق السوري السوري العاجل على دستور جديد يضمن الحقوق والحريات، ويضع حداً لأي استبداد، تنفيذاً للقرار 2254 الضامن لوحدة وسيادة البلاد وتقرير مصير العباد.
فالدستور ليس ورقة مكتوبة فحسب، بل هو الضمانة التي تحمي المواطن، وتصون حقه في التعبير، وتحميه من الظلم، ليكون القانون في سورية المنشودة فوق الجميع، لا سيادة وتمييزاً لفئة على أخرى، ولا مكاناً لمن يريد التفرّد بالسلطة، والحوار الوطني الجاد هو السبيل الوحيد للوصول إلى هذا الهدف، وهو النهج الذي سيؤدي إلى نظام سياسي عادل، يتيح للجميع المساهمة في صنع مستقبل البلاد، ويضمن حقوق العباد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1205