الدولرة المشوهة وغير المنضبطة تُعزز وتُعمق الفقر!
هرب رأس النظام الساقط بشار الأسد، تاركاً البلاد خلفه كومة ركام، تعاني ما تعانيه على الأصعدة والمستويات كافة، ومع هذا الهروب ظهرت على السطح مباشرة تشوهات السياسات كلها، التي كانت تدار البلاد من خلالها (الاقتصادية- المالية- النقدية- الأجرية.. الخ) والتي كانت مُجيّرة بمجملها لمصلحة النظام الساقط، وكبار الناهبين المحسوبين عليه، على حساب مقدرات البلاد والمزيد من الإفقار لغالبية العباد.
ولعل أحد أهم مظاهر التشوه التي ظهرت على السطح خلال الأيام القليلة الماضية، هو الانتقال الفوضوي والعشوائي إلى «الدولرة»، أي تسعير السلع والخدمات بالدولار بشكل علني، بدلاً من تسعيرها بالليرة السورية، وذلك ليس فقط كنتيجة لفقدان الثقة المتوارثة بالليرة السورية، بعد أن أنهكها النظام الساقط، وأفقدها قيمتها تلبيةً لمصالحه ومصالح الطغمة التي كان يمثلها، بل بسبب أطماع وجشع المستمرين بالتحكم بسوق السلع والخدمات، بما في ذلك الدولار، الذي أصبح سلعة تباع وتشترى في السوق، على أيدي متحكمين كبار به، بعيداً عن ضوابط المصرف المركزي كلها، السابقة التي لم تصدر توجيهات بإلغائها، أو وقف العمل بها، أو الجديدة التي ما زالت قاصرة وغير قادرة على لجم انفلات سوق الدولار في الأسواق حتى الآن، مع كل تداعياتها ونتائجها السلبية!
ماهي الدولرة؟
يُشير مصطلح الدولرة بمعناه العام إلى حيازة واستخدام الوحدات الاقتصادية المحلية في دولة ما العملة الأجنبية (الدولار في أغلب الأحيان) وذلك بالتوازي أو بدلاً من العملة الوطنية للقيام بجزء أو جميع وظائف النقود الأساسية. وبمعنى عام أكثر تحديداً، هو الاحتفاظ بجزء أو مكونات الثروة كلها بشكل عملة أجنبية (الدولار).
مع العلم أنه توجد تصنيفات متعددة للدولرة، ومنها: الدولرة الرسمية الكاملة وتعني: الاستبدال الكامل والرسمي للعملة المحلية بالعملة الأجنبية، التي تصبح بمثابة العملة القانونية التي تقوم بوظائف النقود جميعها.
أو الدولرة شبه الرسمية، والتي تشير إلى استخدم العملة الأجنبية إلى جانب العملة المحلية، وذلك بشكل رسمي وبحكم القانون، للقيام بالوظائف الأساسية للنقود.
وأخيراً، الدولرة غير الرسمية أو الجزئية، وتعني استخدام العملة الأجنبية، وبشكل واسع في المعاملات والصفقات التي تمارسها الوحدات المحلية، وتحديداً القطاع الخاص، وذلك مع بقاء العملة الوطنية العملة الوحيدة القانونية.
الدولرة العشوائية!
مع الفراغ وفقدان الضابط القانوني لإيقاع السياسات النقدية الذي جرى خلال الأيام القليلة الماضية، وبالتالي غياب معايير ضبط استخدام الدولار، ظهر شكل جديد من أشكال الدولرة يتسم بالفوضوية والعشوائية، سواء ناحية تسعير المنتجات والسلع بالدولار (المتذبذب وغير المستقر)، أو ناحية بيع وشراء الدولار بشكل عشوائي بين الناس، وهذا ربما يعكس مدى انعدام ثقة القطاعات الاقتصادية والتجارية بالليرة السورية، نتيجة لما عايشوه خلال السنوات الماضية من عدم استقرار في أسعار الصرف، لكنه من كل بد كان فرصة للبعض للإثراء على حساب الناس، فتأثيرات الدولرة المباشرة بالنتيجة تتركز على حياتهم المعيشية والخدمية.
فالانتقال العشوائي إلى الدولرة بهذا الشكل المشوه وغير المضبوط، وخاصة في بلد يعاني ما يعانيه من مشاكل اقتصادية عميقة، وخاصة ناحية انهيار الإنتاج المحلي (الزراعي والصناعي)، وناحية معدلات التضخم المفرطة والمستمرة بالارتفاع، بالتوازي مع معدلات البطالة الكبيرة، وندرة مصادر وحوامل الطاقة، وغيرها من المشاكل المزمنة وغير المحلولة بعد، التي توضح مدى تردي الواقع الاقتصادي، وانعكاسه المباشر على زيادة إفقار الناس وسوء أوضاعهم المعيشية.
فهذا الانتقال العشوائي الذي بدأ لا يعكس بشكل من الأشكال بدء حلحلة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وإنما يعمقها ويزيدها سوءاً أكثر فأكثر مع كل يوم يمضي بلا ضوابط، ولا روادع، ولا رقابة جدية.
آثار الدولرة العشوائية!
إن الانتقال المنظم إلى الدولرة يرتبط عادة بمشاكل اقتصادية واجتماعية كبيرة، وذلك نتيجة لأسبابه التي تفرض على الحكومة في هذا البلد أو ذاك التخلي الكلي أو الجزئي عن العملة الوطنية، وهو يؤثر بالدرجة الأولى على أصحاب الدخل المحدود، وبالتالي تعميق الفجوة الطبقية بين أبناء المجتمع، ويتجلى ذلك بالكثير من النقاط نذكر منها:
فقدان السيطرة على السياسة النقدية، حيث تصبح الحكومة عاجزة عن التحكم في عرض النقود وأسعار الفائدة، مما يصعّب عليها اتخاذ تدابير لمعالجة الأزمات الاقتصادية.
تفكيك الاقتصاد المحلي مع استخدام الشركات والأفراد للدولار بدلاً من العملة الوطنية، مما يؤدي إلى تراجع الطلب على المنتجات والخدمات المحلية، وبالتالي تآكل الاقتصاد المحلي.
زيادة الفقر والانعدام الاجتماعي يمكن أن يؤدي اعتماد الدولار إلى تفاقم الفجوات الاقتصادية، حيث يصبح الوصول إلى العملة الصعبة (الدولار) تحدياً أكبر للفئات الأقل دخلاً.
وغيرها الكثير من المظاهر التي تؤثر بشكل مباشر بأصحاب الدخل المحدود، وهذا بحال كان الانتقال منظماً وبقرار رسمي، ووفقاً للإجراءات القانونية التي من شأنها تقليل آثار هذا الانتقال ما أمكن.
على ذلك فإن الانتقال العشوائي والفوضوي للدولرة الجاري حالياً في البلاد، سيؤدي إلى نتائج وآثار أكثر بؤساً، والتي بدأت مظاهرها تتجلى بشكل فوري، خاصة مع تسعير المحروقات (البنزين- المازوت) بالدولار، وبالتالي ارتباط معظم أسعار المنتجات والسلع والخدمات، التي تشكل المحروقات جزءاً كبيراً من تكاليفها، بالدولار!
الجانب المنظم في الوضع الحالي، ومن المستفيد؟
بدأت أسعار صرف الدولار بالانخفاض بشكل متسارع، حتى وصل سعر صرف الدولار إلى 9000 ل.س بعد أن وصل خلال الأيام الأخيرة من حياة النظام السابق إلى 27000 ل.س، والواضح أن سقوط النظام ليس هو السبب الأساسي في انخفاض الدولار إلى هذا الحد، فمعايير تحديد سعر الصرف معقدة، وليست بسيطة إلى هذه الدرجة، حتى تتم بشكل ميكانيكي كما تمت، والواضح أن الجهات التي كانت متحكمة بسعر الصرف بالخفاء والمرتزقة منه لا زالت تمارس دورها بشكل كبير جداً.
فالواقع الاقتصادي الحالي يعاني كما أشرنا سابقاً من العديد من المشكلات التي لا يمكن أن تساعد في انخفاض سعر الصرف بنسبة 66% خلال مدة زمنية لا تتجاوز الأسبوع، ما يعني أن انخفاض سعر الدولار بهذه الطريقة وهمي وتم بقرار إرادي من قبل البعض من كبار الحيتان، استمراراً للنهج السابق في إدارة سعر الصرف، في سبيل المزيد من النهب والتربح، على حساب حياة الناس المعيشية والاقتصادية، خاصة وأن الشبكات التي كانت تعمل بالخفاء أصبحت تعمل الآن بالعلن على سحب الدولار من السوق بشكل ممنهج ومنظم، ما أدى إلى زيادة العرض الدولار، وبالتالي انخفاض سعره كما رأينا، ولكن هذه الشبكات نفسها تقوم فقط بشراء الدولار، وتحتفظ به وتحتكره ولا تقوم ببيعه، حتى تتوقف عن سحب مقدرات السوريين ومدخراتهم الدولارية وغيرها، وبالتالي ندرة الدولار بالأسواق لاحقاً، ما يؤدي إلى ارتفاع سعره وعدم قدرة السوريين على الحصول عليه، ولكن هذه المرة يأتي ذلك في ظل الدولرة العشوائية، وتسعير السلع والخدمات بالدولار بشكل علني، الأمر الذي سيؤدي إلى تعميق الفجوة المعيشية وتردي أحوال الناس بسبب عدم قدرتهم على الحصول على الدولار أولاً، وارتفاع الأسعار ثانياً، وبالتالي مزيداً ومزيداً من تردي الأوضاع المعيشية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1205