محدودية الموارد ارتباطاً بالوظيفة العامة... خلط رسمي مقصود!

محدودية الموارد ارتباطاً بالوظيفة العامة... خلط رسمي مقصود!

خلال اجتماع بتاريخ 27/10/2024 لفريق العمل الحكومي المعني باستراتيجية تنمية المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، قال رئيس الحكومة: «نريد للمشاريع الصغيرة والمتوسطة التطور والتوسع، وتشجيع خريجي الجامعات على إطلاق مشاريعهم وفق اختصاصاتهم وبما يتناسب مع احتياجات السوق المحلية والمجتمع، وتغيير الثقافة المجتمعية السائدة نحو التوجه إلى الوظيفة العامة ولا سيما في ظل محدودية الموارد المالية للحكومة».

لن نخوض في موضوع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، فقد سبق لقاسيون أن ناقشته مراراً على صفحاتها، لكن سنقف عند حديث رئيس الحكومة عن الثقافة المجتمعية السائدة بالتوجه إلى الوظيفة العامة، وربط ذلك بمحدودية الموارد المالية الحكومية، ما يمثل تعبيراً عن وجهة النظر الرسمية في تعاطيها مع العناوين أعلاه!
فهل فعلاً التوجه إلى الوظيفة العامة ما زالت ثقافة مجتمعية سائدة؟
وهل للحكومة موارد مالية خاصة، أم هي مسؤولة عن مالية الدولة ومواردها، والتي هي أموال المواطنين؟
وما هو أثر تكلفة أجور الوظيفة العامة على الموارد المالية للدولة؟

الوظيفة العامة خيار اضطراري ومؤقت!

الطرح بأن التوجه للوظيفة العامة هو ثقافة مجتمعية سائدة يبدو وكأنه معزول عن الواقع ومنفصل عنه تماماً!
فالوظيفة العامة لم تعد مرغوبة ولا مستقطبة منذ عقود، بل أصبحت طاردة ونابذة لمن هم على رأس عملهم بها، والسبب الرئيسي بذلك هي الأجور الهزيلة، بالإضافة إلى الكثير من عوامل النبذ الأخرى!
فاللجوء إلى الوظيفة العامة أصبح الخيار الأخير والاضطراري والمؤقت بالنسبة لطالبي العمل، إلى حين حصولهم على فرص عمل أفضل، وينطبق عليه مقولة «ساقية جارية ولا نهر مقطوع»، في ظل المنافسة الشديدة في سوق العمل بسبب قلة وندرة فرص العمل المتاحة فيه، بالإضافة إلى زيادة عوامل الاستغلال على حساب الحقوق (الأجور وساعات العمل والتعويضات والتأمينات و...)!
فالنزف من الوظيفة العامة يزداد، والجهات العامة بغالبيتها تعاني من نقص الكوادر وتشتكي من تدنّي نسب التقدم للمسابقات المعلن عنها لترميم الشواغر!
ولعل مؤشرات المسابقة المركزية التي أجرتها الحكومة منذ عامين دليل واضح على مستوى أعداد المتقدمين وأعداد المقبولين وأعداد الملتحقين وأعداد المستنكفين بعد الالتحاق، وبالنتيجة فرص العمل المطروحة التي بقيت شاغرة في الكثير من الجهات العامة!
مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحكومة بنفسها اتخذت إجراءات للحد من هذا النزف، حيث قلصت قبول الاستقالات لدرجة المنع، إلا بحالات استثنائية!
فعن أية ثقافة مجتمعية سائدة يجري الحديث الرسمي؟!
وهل ذلك بغاية تغييب حال النزف الجاري من الوظيفة العامة، ولتبرير استمرار عوامل النبذ منها، وخاصة السياسات الأجرية المجحفة؟!

موارد حكومة أم موارد دولة؟!

أما الحديث عن «محدودية الموارد المالية الحكومية» ففيه خلط غير مبرر وغير مفهوم، فلا يوجد موارد مالية للحكومة، بل موارد مالية للدولة بمسؤولية الحكومة حسن إدارتها وتنميتها!
فأن يقال أنّ للحكومة موارد فهذا يعني أنها تمن على المواطنين والدولة بمواردها، وكأنها أموالها الخاصة!
مع العلم أن موارد الدولة هي أموال الناس أصلاً، على ذلك فلا منَّ في ذلك عليهم من كل بد، لا من الحكومة ولا من غيرها، بما في ذلك أعباء وتكاليف الوظيفة العامة، بل ومن واجباتهم المفترضة كمواطنين أن يراقبوا الحكومة ويحاسبوها على حسن إدارتها لهذه الموارد بما يحقق مصلحتهم!
فهذا الخلط الرسمي، باعتبار موارد الدولة أنها موارد حكومة، غير مبرر من كل بد، لكن يبدو أن الحكومة بتغول سياساتها وتوجهاتها الظالمة تجاه المواطنين وعلى حساب حقوقهم، أصبحت ترى نفسها مالكة حصرية لموارد الدولة لتصنع منها ما شاءت، خاصة مع غياب كل أشكال المحاسبة والمساءلة المفترضة!

محدودية الموارد لا علاقة لها بكتلة الأجور الهزيلة!

لنصل إلى صلب موضوع محدودية الموارد ربطاً مع الوظيفة العامة، وجوهر الجوهر بذلك هي الأجور، التي تعتبر أقل من هزيلة بمقاييس الأسعار والتضخم والاحتياجات!
فعلى سبيل المثال كانت نسبة كتلة اعتمادات الأجور والتعويضات في القطاع العام، بما في ذلك أجور المتقاعدين، من إجمالي الموازنة العامة للدولة في عام 2023 هي 12,7% فقط، وهذه النسبة متقاربة في كل الموازنات العامة السنوية!
فهل تشكل هذه النسبة الضئيلة عبئاً حقيقياً على الموازنة كي تتم مقارنتها بالموارد المحدودة، بحسب حديث رئيس الحكومة أعلاه؟!
لنصل إلى لب الموضوع بهذا الشأن والمتمثل بالموارد نفسها، فمن أسباب محدودية الموارد تراجع الإنتاج الزراعي والصناعي (العام والخاص) عاماً بعد أخر، والسياسات الضريبية المحابية لأصحاب الأرباح، بالإضافة إلى التهرب الضريبي، بالإضافة إلى الكثير من الأسباب الأخرى التي لا تقل أهمية، مع عدم تغييب عامل رئيسي يتمثل بحجم النهب والفساد الكبير المتسلط على الموارد المتاحة «المحدودة»!
خلاصة القول يبدو أن الحكومة تريد من الطرح أعلاه تصوير الوظيفة العامة على أنها تشكل عبئاً كبيراً على الموازنة على عكس الواقع، لتبرير سياسات تجميد الأجور، وسياسات تقليص العمالة في الوظيفة العامة، مع التغييب المقصود لأسباب محدودية الموارد، وإبعاد المتسببين في نهب جزء كبير منها عن المساءلة والمحاسبة!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1199