التعليم الجامعي فرز طبقي فج سيراً نحو إنهاء التعليم المجاني!
سياسة الفرز الطبقي في مرحلة التعليم الجامعي تصبح أكثر فجاجة عاماً بعد آخر، حيث يصبح التعليم الجامعي حكراً على من يملك المال فقط، أما الغالبية المفقرة فتتقلص أمامهم فرص استكمال تعليمهم الجامعي!
وهنا لن نتحدث عن التعليم الجامعي الخاص الذي فسح المجال أمامه لاستقطاب الطلاب الميسورين بجامعاته وكلياته، بل عن بدعة أنظمة التعليم العام المأجور التي تم إدخالها على حساب التعليم العام المجاني، وخاصة التعليم الموازي المأجور الذي ترتفع نسب القبول فيه عاماً بعد آخر على حساب تراجع نسب القبول في التعليم العام المجاني، كما ترتفع رسومه بحيث تصبح عائقاً أمام المفقرين للاستفادة منه!
فتقليص فرص المفقرين باستكمال تعليمهم الجامعي يتم تكريسها من خلال تناقص أعداد المقبولين في التعليم العام المجاني عاماً بعد آخر وفقاً لسياسات الاستيعاب وآليات المفاضلة، ومن خلال زيادة الرسوم في نظام التعليم الموازي بداية كل عام دراسي تقريباً!
فقد أقرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي خلال السنوات السابقة زيادة على رسوم التعليم الموازي لعدة مرات، وهذا العام لم يختلف عن سابقاته، حيث رفعت الوزارة قبل أيام رسوم التعليم الموازي بنسبة 100% مقارنة مع رسوم العام الماضي، لتصبح 2,400,000 ل.س للكليات الطبية، و1,800,000 لكليات الهندسة والفنون الجميلة، و1,400,000 لكلية هندسة الزراعة والطب البيطري، و1,000,000 لباقي الكليات والمعاهد!
تكاليف مرتفعة تفوق الإمكانية!
إن السياسات المتبعة عبر رفع رسوم التعليم الموازي سنة بعد أخرى لا تأخذ بعين الاعتبار مقدرة الطلاب على تحمل هذه الأعباء والتكاليف التي تفوق إمكانياتهم!
والحجة الجاهزة لوزارة التعليم العالي في كل مرة ترفع رسوم التعليم الموازي فيها، هي أن هذه الرسوم لا تقارن مع رسوم التعليم في الجامعات الخاصة!
وكأن معيار ملائمة هذه الرسوم هو مدى انخفاضها عن رسوم التعليم في الجامعات الخاصة، علماً أنه من المفترض أن يكون الأساس قدرة الطلاب على تحمل أعباء هذه التكاليف من عدمها!
فعلى سبيل المثال فإن تكلفة الدراسة للسنة الواحدة بالكليات الطبية ضمن التعليم الموازي قد تصل إلى مبلغ 10,000,000 ل.س، منها 2,400,000 مبلغ الرسم وفقاً للزيادة الأخيرة، وبقية المبلغ عبارة عن تكاليف إضافية من مستلزمات ومواد مكلفة بهذه الكليات، بالإضافة إلى تكاليف المحاضرات وتكاليف المواصلات... إلخ.
وعليه فإن تكلفة تخرج الطالب من الجامعة بأحد الاختصاصات الطبية تقدر بحوالي 50,000,000 ل.س بالحد الأدنى، طبعاً بحال أنّ الطالب لم يضطر لإعادة أي سنة من السنوات، ومع غض الطرف عن عامل التضخم وتآكل القيمة الشرائية لليرة أمام الارتفاعات السعرية خلال سنوات الدراسة، وهذه التكلفة المرتفعة يتحملها بثقلها طالب التعليم المجاني والمأجور على السواء وبنسب متقاربة، فالشكل الطبيعي استناداً إلى هذه التكلفة المرتفعة أن هذه الكليات ستستقطب الطلاب الميسورين والمقتدرين غالباً، بينما يتسرب منها المفقرون تباعاً بسبب عجزهم عن تحمل التكاليف!
أما تكلفة التخرج من الاختصاصات الأخرى، التي حددت وزارة التعليم رسومها بنظام التعليم الموازي بمبلغ 1,000,000 ل.س سنوياً، فلن تقل عن 15,000,000 ل. س، بين رسوم سنوية ومصاريف متنوعة أخرى!
هذه التكاليف المرتفعة باتت تشكل عبئاً حقيقياً على الطلاب وذويهم، خاصة وأن الحد الأدنى الهزيل للأجور لا يمكن مقارنته بها، وبحيث أصبح حتى الطالب العامل عاجزاً عن تحمل تكاليف التعليم الموازي المأجور والاستمرار به!
تغيرات بنيوية على مجانية التعليم سيراً نحو إنهائه!
مع اعتماد نظام التعليم الموازي المأجور في عام 2002 كانت نسبة القبول به 15% من إجمالي عدد الطلاب المقبولين في التعليم الجامعي، بحسب سياسة الاستيعاب الجامعي عبر آليات المفاضلة المتبعة في حينه!
ومع مرور السنوات تزايدت نسب القبول في التعليم الموازي المأجور تباعاً، ففي عام 2005 وصلت نسبة القبول إلى 20% من إجمالي أعداد الطلاب المقبولين، وفي عام 2010 وصلت نسبة القبول إلى 30%، وفي عام 2017 أصبحت 33%، واستمرت هذه النسبة بالتزايد بحيث أصبحت 40% في عام 2019، وفي عام 2022 وصلت إلى 50% من أعداد المقبولين في التعليم الجامعي، وفي العام الدراسي 2023-2024 لم تعلن الوزارة عن نسبة القبول في التعليم الموازي المأجور، وأبقت ذلك طي الكتمان، ربما لإخفاء النهج الطبقي المتبع في سياسات القبول الجامعي!
فالتغيرات البنيوية الطبقية فيما يتعلق بمجانية التعليم هي تغيّرات ممنهجة ومنظمة، لأن زيادة رسوم التعليم الموازي المأجور، بالتوازي مع تزايد نسب القبول فيه خلال السنوات الماضية، يدل على النهج المعتمد والهادف إلى إنهاء مجانية التعليم بشكل تدريجي!
فبعد أن كانت نسبة الطلاب المقبولين الذي يتلقون تعليماً مجانياً 85% عند إدخال نظام التعليم الموازي المأجور، أصبحت هذه النسبة 50% منذ عامين، أي نصف الطلاب المقبولين في التعليم الجامعي العام باتوا يتلقون تعليماً مأجوراً، ولا ندري كيف ستكون النسبة خلال العام الدراسي القادم 2024-2025!
الجدول الآتي يوضح نسب تزايد أعداد الطلاب في نظام التعليم الموازي في الجامعات الحكومية، بالاعتماد على بيانات المكتب المركزي للإحصاء:
الجدول أعلاه يبين نتائج زيادة نسب القبول في التعليم الموازي عاماً بعد آخر على إجمالي أعداد الطلاب في الجامعات الحكومية!
فإذا كانت معدلات النمو السكاني تفسر بدرجة كبيرة ازدياد عدد طلاب التعليم الجامعي بين عامي 2005 و2022، إلا أن السياسات الممنهجة في إنهاء التعليم المجاني هي التي تفسر إلى درجة كبيرة زيادة عدد طلاب التعليم الموازي المأجور بين العامين نفسيهما، على حساب تراجع عدد طلاب التعليم العام المجاني!
فعدد طلاب التعليم العام ازداد بنسبة 40% تقريباً خلال هذه السنوات، في حين أن عدد طلاب الموازي المأجور تضاعف بما يقارب 15 مرة في الجامعات الحكومية!
النتائج البيانية أعلاه تساعد على استنتاج تقديرات أولية لمتغيراتها خلال السنوات القادمة، بحال الاستمرار بالنهج الطبقي نفسه على مستوى سياسات القبول والاستيعاب الجامعي!
فبعد ثلاث سنوات، أي في العام الدراسي 2027-2028 ستصل نسب القبول في التعليم الموازي إلى 90% تقريباً، ونسبتهم الإجمالية من أعداد الطلاب ستصل إلى 70% تقريباً، وربما سيتم الاحتفاظ بأعداد محدودة في التعليم العام المجاني لذر الرماد في العيون ليس إلا، هذا إن تم الإعلان عن أعداد المقبولين ولم يتم تكريس التعتيم على هذه الأرقام!
ومع تراجع قدرة السوريين المادية عاماً بعد آخر بفعل سياسات الإفقار الممنهجة، بالتوازي مع الزيادات السنوية على رسوم التعليم الموازي المأجور، فإن الأمر لن يبقى مقتصراً على تقليص التعليم المجاني سيراً نحو إنهائه، بل يعني ضمناً إنهاء قدرة المفقرين على استكمال تعليمهم الجامعي، وحصر تلك الإمكانية بمن يملك المال فقط!
الاعتمادات تتآكل والبديل جيوب الطلاب!
إنهاء التعليم المجاني لم يقف عند حدود تقليص فرص القبول فيه أو زيادة رسوم البديل المتمثل بنظام التعليم الموازي المأجور فقط، بل يتم تكريس ذلك بتخفيض الإنفاق على التعليم الجامعي عاماً بعد آخر أيضاً!
الجدول الآتي يبين تراجع الاعتمادات المخصصة للتعليم العالي في الموازنات السنوية منذ عام 2005 وحتى عام 2022، وذلك بعد تحويل مبالغ الاعتمادات إلى معادلها الدولاري بحسب سعر الصرف الرسمي في الأعوام المرصودة:
الجدول أعلاه يبين حجم التراجع الكبير في الاعتمادات المخصصة للتعليم العالي في الموازنات السنوية للأعوام المرصودة بحسب معادلها الدولاري المحسوب على سعر الصرف الرسمي، على عكس ما تبينه الاعتمادات من زيادات بالليرة!
فنسبة الانخفاض بالاعتماد المخصص للتعليم العالي في الموازنات السنوية بين عامي 2005- 2022 هي 69%، وبين عامي 2010- 2022 بنسبة 85,4%، وهي نسب تراجعية كبيرة جداً من دون أدنى شك!
وعلى اعتبار أن بيانات الإيرادات الإجمالية السنوية من رسوم التعليم الموازي التي يتكبدها الطلاب غير معلنة، سنقوم بتقديرها وفقاً لعدد طلاب التعليم الموازي الرسمي المعلن في كل عام، ووفقاً لمتغيرات الرسوم السنوية المحددة من وزارة التعليم العالي مطلع كل عام وبشكل وسطي.
فعلى سبيل المثال في عام 2022 حددت وزارة التعليم رسوم التعليم الموازي 600,000 ل.س للكليات الطبية، و450,000 ل.س لكليات الهندسة والفنون الجميلة، و350,000 ل.س لكلية الزراعة وطب البيطرة، و250,000 لباقي الجامعات والمعاهد، والوسطي المسدد من كل طالب بحدود /400,100/ ليرة، وكان عدد طلاب التعليم الموازي في هذا العام هو /151,455/ طالباً.
والجدول الآتي يبين الإيرادات المقدرة من التعليم الموازي خلال السنوات المرصودة فيه، محسوبة بالدولار بحسب سعر الصرف الرسمي، بالمقارنة مع الاعتمادات المخصصة للتعليم العالي:
الجدول أعلاه يوضح أن الإيرادات الإجمالية التقديرية من نظام التعليم الموازي المأجور متزايدة، وكذلك نسبتها بالمقارنة مع الاعتمادات المخصصة للتعليم العالي في الموازنات السنوية، بالرغم من تراجع هذه الاعتمادات كما تم توضيحه!
ليظهر جلياً أن الحكومة تعتبر الإيرادات من نظام التعليم الموازي جزءاً ترتكز عليه لتمويل بعض من مستلزمات قطاع التعليم العالي، مقابل تقصيرها في رصد الاعتمادات الكافية له، بل مقابل تراجع الاعتمادات السنوية المرصودة لهذا القطاع الهام، وبذلك تنقل عبء تمويل قطاع التعليم العالي على الطلاب عاماً بعد آخر، بالتوازي مع زيادة حصة نظام التعليم الموازي المأجور على حساب تراجع حصة التعليم المجاني!
أوسع من انزياح طبقي في التعليم الجامعي!
السياسة الطبقية والفرز الطبقي في التعليم الجامعي بين من يملك ومن لا يملك، ومسيرة إنهاء التعليم المجاني عاماً بعد آخر، لا تتوقف نتائجها عند قدرة الطلاب من الغالبية المفقرة على استكمال تعليمهم الجامعي من عدمها، بل وتتعداها إلى أبعد من ذلك!
فتسليع التعليم، وفقاً للسياسات التعليمية المتبعة بمراحل التعليم كافة، لا يحصر إمكانية الحصول عليه بالأثرياء فقط، بل وحرمان الخريجين الجامعيين المفقرين من فرصهم في سوق العمل أيضاً، على محدودية هذه الفرص أصلاً، وبسوق عمل طبقي ومشوّه واستغلالي ومهيمن عليه إلى أبعد الحدود سلفاً!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1190