جوقة منتقدين وانتقادات للمزيد من التعمية وتأبيد السوء!
تكاثرت في الآونة الأخيرة الانتقادات على ألسنة بعض الرسميين (وزراء في الحكومة الحالية أو وزراء سابقين أو مسؤولين بمختلف مواقع المسؤولية، بما في ذلك بعضُ وسائل الإعلام والإعلاميون المحسوبون على السلطة) الموجهة للسياسات الحكومية المتبعة خلال السنوات الماضية، والتي أدت إلى ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والخدمية من تردٍّ كارثي على المستويات كافة، على حساب المفقرين والاقتصاد الوطني والمصلحة الوطنية.
ويبدو أن الواقع بنتيجة مفرزات سوء السياسات وموبقاتها المتراكمة خلال العقود والسنوات الماضية لم يعد من الممكن القفز فوقها أو تجاهلها أو تجميلها كما جرت العادة، لذلك عكفت جوقة المنتقدين الجدد على ضخ جرعات متزايدة من الانتقادات التي لا تغني ولا تسمن من جوع بنتيجتها!
فموجة الانتقادات المستجدة، وإن كانت موجهة بعناوينها العامة للسياسات المتبعة خلال السنوات الماضية، إلا أن طابعها العام هو محاولة وضع بعض الرتوش التجميلية لهذه السياسات وليس القطع معها من أجل تغييرها كلياً، وكذلك تتضمن بعض الشخصنة أحياناً، محملة بعض الوزراء والمسؤولين منفردين نتيجة سوء جملة السياسات الرسمية، مع عدم نفينا للمسؤولية الفردية طبعاً!
فعلى سبيل المثال فإن سياسات تخفيض الإنفاق العام الظالمة، بذريعة قلة ومحدودية الموارد والإيرادات، ما زالت موجودة في ذهنية المنتقدين مع تبني ذرائعها، وكذلك سياسات تخفيض الدعم الجائرة بذرائعها المختلفة، مع استمرار تبني الفرز بين مستحقين وغير مستحقين في عمقها، وغيرها الكثير من مفردات وتفاصيل السياسات الرسمية، بما في ذلك السياسات المالية والنقدية، والأهم من كل ذلك أن هؤلاء يكررون الذرائع الرسمية المضخمة الخاصة بالحرب والحصار والعقوبات، أيضاً مع عدم نفينا لدورها، لكن ليس بالشكل التضخيمي لها للتعمية عن سوء السياسات!
أما الغائب عن جوقة المنتقدين فهو الإشارة إلى شريحة المستفيدين (القلة المحدودة عدداً، من كبار حيتان المال والنهب والفساد في البلاد) من سوء السياسات المتبعة، والمجيرة بكليتها لمصلحتهم وصولاً إلى زيادة مركزة النهب في جيوبهم، في مساعٍ محمومة لإبعاد هؤلاء عن حيز الانتقاد، أو تسليط الضوء على دورهم المتعاظم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في البلاد!
فغالبية القوانين والقرارات والتعاميم الصادرة والإجراءات الرسمية المتبعة تأخذ بعين الاعتبار مصلحة هذه الشريحة المحدودة عدداً، أولاً وقبل كل شيء، على حساب مصلحة الكثرة من بقية الشرائح الاجتماعية والاقتصاد الوطني، والأمثلة على ذلك أكثر من أن يتم حصرها!
وبهذا الصدد ربما من الجدير بالذكر والتذكير واقع الإنتاج الصناعي في البلاد، ومعاناة شريحة الصناعيين من نتائج السياسات المتبعة الكارثية على الصناعة والإنتاج في منشآتهم ومعاملهم، ومساعيهم لحلحلة بعضها عبر الأروقة الرسمية دون جدوى، مع الأخذ بعين الاعتبار أن واقع القطاع العام الصناعي ليس بأفضل حالاً طبعاً، وكذلك معاناة بقية الفعاليات الاقتصادية بما تمثله من شرائح مختلفة، بما في ذلك معاناة الفلاحين والمزارعين والنتائج الكارثية التي تطال الإنتاج الزراعي بالمحصلة، والأهم معاناة الغالبية المفقرة في البلاد من جملة السياسات الظالمة والمفقرة المتبعة على حساب معاشهم وخدماتهم!
فالحديث عن أهمية الإنتاج بقطاعيه الصناعي والزراعي (العام والخاص)، وإعادة دورة الحياة الاقتصادية في البلاد، مع استمرار الحديث عن مبررات وذرائع إنهاء الدعم عن هذه القطاعات وتبنيها جزءاً أو كلاً من قبل المنتقدين الجدد، لا يوصلنا إلا إلى نتيجة واحدة هي المزيد من الصعوبات والعراقيل الماثلة أمام هذه القطاعات لتقويضها، وصولاً إلى إنهاء الإنتاج والقضاء عليه برمته!
والحديث عن الفساد ومكافحته، دون الغوص في عمقه وصولاً لتجفيف منابعه، هو حديث فضفاض ومكرر على ألسنة الرسميين وجوقة المنتقدين على السواء، مع مساعي تحميل المجتمع مسؤولية تفشي وتعمق ظاهرة الفساد، وكأنها ذات جانب أحادي ووحيد مرتبط بالأخلاق والقيم الفردية فقط لا غير، مع العلم أن هؤلاء يعلمون كما يعلم غيرهم أن جزءاً هاماً من المشكلة يكمن في السياسات الأجرية الظالمة التي تعتبر أحد أهم أسباب ظاهرة انتشار الفساد، والتي تعمقها بقية السياسات التي لا تقل ظلماً وسوءاً بمفرزاتها ونتائجها على مستوى كل الظواهر الاجتماعية السلبية والهدامة التي زادت انتشاراً وتعمقاً في المجتمع!
وتكرار الحديث عن قلة وشح الموارد والإيرادات على السنة المنتقدين الجدد ما هو إلا تبرير للذرائع الرسمية التي فسحت المجال للمزيد من أشكال وممارسات الجباية المفرطة عبر الرسوم والضرائب المفروضة، مع تغييب كلي لأحد أهم وأكبر المطارح الضريبية ومصادر التمويل الخاصة بكبار أصحاب الأموال والناهبين المعفيين منها عبر جملة من القوانين والتشريعات، غير مصادر النهب الأخرى المتاحة أمام هؤلاء، والتي لا تطالها آليات الجباية الرسمية المتبعة!
ولعل الأسوأ بهذا المجال هو جرعات التفاؤل التي يتم بثها بين الحين والآخر على ألسنة جوقة المنتقدين والرسميين عن مصادر التمويل الخارجي، الذي سيخرج الزير من البير، من خلال الحديث عن مساعي استقطاب الاستثمارات ومشجعاتها تحت عناوين إعادة الإعمار أو غيرها من العناوين الأخرى، مع تغييب كل عوامل النبذ لاستقطاب الرساميل الاستثمارية، المحلية والدولية، وخاصة ما يتعلق بالجانب السياسي على مستوى استتباب الاستقرار واستعادة وحدة وسيادة البلاد، كتعمية مفرطة في غير مكانها ودون تحمل مسؤوليات العمل على تذليل عوامل النبذ فيها!
فالتشوهات في البنية الاقتصادية الاجتماعية، بل والتعليمية والثقافية والعلمية والسياسية و...، التي كرستها السياسات المنحازة الأكثر تشوهاً، يدفع ضريبتها غالبية السوريين بمختلف شرائحهم، بينما تستفيد منها شريحة واحدة منفردة محدودة العدد ناهبة لمقدّرات البلاد والعباد، لتتعاظم ثرواتها يوماً بعد آخر!
فكل انتقاد من قبل جوقة المنتقدين الجدد لا يربط السياسات المتبعة بالمستفيدين منها، وصولاً إلى إنهائها مع حواملها وتقويض إمكانات الشريحة المستفيدة منها لا يعول عليه، بل لا يمكن الركون إليه، باعتباره بالنتيجة يكرس تعاظم دور هذه الشريحة الناهبة على حساب مقدرات البلاد والعباد فقط لا غير، مع تكريس الواقع على ما هو عليه من سوء كارثي على المستويات كافة، مع مساعي تأبيده!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1177