اعتمادات صندوق دعم الإنتاج الزراعي شبه صفرية!
القطاع الزراعي ضحيةٌ قديمة لسياسات تخفيض الدعم الجائرة التي تستمر الحكومة بانتهاجها، رغم الكم الهائل من الموبقات التي أورثتها وما زالت تورثها هذه السياسات لمختلف القطاعات الحيوية الهامة الأخرى، كالقطاع الصناعي!
فبعد عقود من انتهاج الحكومة لسياساتها الكارثية لم يعد خافياً على أحد حجم ما يعانيه الإنتاج الزراعي من صعوبات ومعيقات ومشكلات كارثية، ومع ذلك، ورغم مناشدات الفلاحين، تصر الجهات المعنية على المضي قُدماً بسياسات تخفيض الإنفاق وتقليص الدعم، تاركة هذا القطاع الاستراتيجي في مهب الريح، ليعاني ما يعانيه من استغلالٍ ونهبٍ، الأمر الذي أدى عملياً إلى تراجع الإنتاج الزراعي بشكل كبير!
فبعد أن وصلت سورية لما يشبه الاكتفاء الذاتي بالكثير من المنتجات الزراعية وصناعاتها المرتبطة بها، بتنا اليوم نستورد القمح والبقوليات والخضار، والكثير الكثير من المنتجات الزراعية (النباتية والحيوانية)، وصولاً لاستيراد الأغنام والعجول مؤخراً!
نقاشات حكومية لا تُغني ولا تُسمن!
ناقش مجلس إدارة صندوق دعم الإنتاج الزراعي الأسبوع الماضي- خلال الاجتماع الذي عقد في وزارة الزراعة برئاسة وزير الزراعة- الموازنة التقديرية وخطة عمل الصندوق لعام 2024، والميزانية الختامية لعام 2023، ومما جاء خلال المناقشة: «أكد الوزير على أهمية أن يكون للصندوق دور في رسم سياسة دعم القطاع الزراعي على المستوى الوطني، وفق رؤية علمية واضحة تحقق الهدف الأساسي لإحداثه، لافتاً إلى ضرورة تحديد آلية جديدة لتوجيه الدعم الزراعي ليكون له أثر مباشر على الفلاح، وانعكاس إيجابي على الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي».
حديث الوزير أعلاه يدفعنا للتساؤل: ما هدف الحكومة الأساسي من إحداث صندوق دعم الإنتاج الزراعي؟ وهل أدى الصندوق مهامه؟
الجواب عن هذا السؤال يُعيدنا لعام 2009، عندما بدأ صندوق دعم الإنتاج الزراعي عمله بشكل فعلي، حيث تمثلت مهامه حينها بتقديم مبالغ الدعم للفلاحين بهدف سد العجز الحاصل في تكاليف الإنتاج الزراعي، وذلك بعد رفع أسعار مدخلات العملية الإنتاجية، في ظل السياسات الممنهجة التي بدأت الحكومة بتنفيذها في عام 2005، كقرار رفع أسعار المازوت، والبدء بتحرير أسعار الأسمدة، مما تسبب في رفع تكاليف الإنتاج الزراعي لحدود خيالية غير مقبولة!
والآن، وبعد 15 عاماً، ومع تراجع الإنتاج الزراعي وخسارتنا للعديد من المحاصيل الاستراتيجية كالشوندر السكري والقطن وغيره، ومع تراجع مساحة الأراضي المزروعة، وعزوف الكثير من الفلاحين عن الزراعة، فهل نستطيع القول: إن صندوق دعم الإنتاج الزراعي أدى الغاية والهدف من وجوده؟!
فمن المعروف أن تفعيل دعم قطاع الإنتاج الزراعي يرتبط بوجود عاملين اثنين، أولهما: تعزيز عمل صندوق الدعم عبر زيادة موازنته سنوياً، وهذا ما لم يحدث قط، وسنتطرق له تفصيلياً فيما بعد، أو التراجع عن السياسات المقوِّضة للإنتاج، كسياسات تحرير الأسعار، وتخفيض الإنفاق والدعم، وهذا ما لم يحدث قط أيضاً، بل ما زال مستمراً حتى تاريخه!
وفي متابعة لما ورد من نقاشات في الاجتماع أعلاه، فقد أشار الوزير إلى: «ضرورة إجراء لقاءات وحوارات مفتوحة على مستوى المحافظات والمناطق بحضور كافة الشرائح فيها، من فلاحين وخبراء وفنيين ونقابات ومنظمات وغيرها، لمناقشة آلية الدعم الحالية، وتطويرها، والأساليب المطلوب اتباعها لتوحيد جهة الدعم، وتوجيه مساره بطرق جديدة، ووضع خطة استراتيجية مستقبلية لعمل الصندوق».
وهنا نتساءل: ما جدوى هذه اللقاءات في ظل استمرار النهج المتبع نفسه؟
ولعل مثال ما حدث مع فلاحي سهل عكار في أيلول الماضي، عندما خسروا محصول البطاطا، أحد الأدلة على ذلك، ومثله الكثير من الأدلة الشبيهة!
فهل حديث الحكومة مع الفلاحين وسماع مطالبهم سيثمر كما أثمر حديثها مع مطالب الصناعيين؟!
75 مليار ليرة موازنة الصندوق!
استعرض مدير الصندوق رائد حمزة خطة عمل الصندوق المنفذة خلال 2023، والمبالغ المرصودة لصالح الصندوق خلال 2024 البالغة 75 مليار ليرة، بالإضافة إلى المبالغ المدورة من خطة العام الماضي، وأشكال الدعم المحددة وفق الخطة، مثل: دعم البذار المحسن الموزع من المؤسسة العامة لإكثار البذار، واستبدال أشجار الحمضيات الهرمة، ودعم المحاصيل البقولية “حمص وعدس وفول حب”، والمواد العلفية، مثل: الذرة الصفراء والشعير المسلّم للمؤسسة العامة للأعلاف.
هنا تحديداً تكمن الكارثة!
هل يستطيع مبلغ 75 مليار ليرة، المخصص لصالح صندوق دعم الإنتاج الزراعي، تغطية عناوين الدعم المستهدفة بحسب الادعاءات الرسمية الجوفاء؟
فالدعم الذي يجري الحديث عنه، كمبلغ مرصود، محدود وضئيل جداً يكاد لا يغطي حاجة الفلاحين لدعم البذار، خاصةً ومع تنوع المواسم والمحاصيل، فكيف ستستطيع الحكومة تنفيذ خطة الدعم المناطة بالصندوق؟
أرقام تبين حجم الكارثة!
رغم أهمية قطاع الإنتاج الزراعي بكل ما يؤمنه من إنتاج نباتي وحيواني على مستوى الأمن الغذائي وكفاية السوق المحلية أولاً، وصولاً لما يتم تصديره إلى الأسواق الخارجية، إضافة لما يؤمنه من فرص عمل تعيل مئات آلاف الأسر، وارتباطه بالكثير من الصناعات المحلية، الغذائية وغير الغذائية، إلا أن الواقع يشير إلى تراجع هذا الإنتاج عاماً بعد آخر، والأرقام تنذر بخسارتنا لمحصول تلو الآخر، والسبب الأساسي لذلك يعود لسياسات خفض الدعم الجائرة التي زادت تأثيراتها السلبية خلال السنوات القريبة الماضية بصورة قاسية وفجّة!
فيما يلي جدول يبين متغيرات الاعتمادات المرصودة لصندوق دعم الإنتاج الزراعي من واقع أرقام الموازنات السنوية الرسمية، بالمقارنة مع متغيرات سعر الصرف الرسمي، لتوضيح مؤشر التراجع الكبير خلال السنوات الماضية في هذه الاعتمادات:
الأرقام أعلاه، تُظهر وكأن هناك زيادة، أو ثباتاً نسبياً، بالاعتمادات المرصودة للصندوق محسوبة بالليرة، لكنها بالمقابل تُظهر الكثير من التفاوت بحال حسابها بما يعادلها بالدولار، ليتضح مقدار التراجع الكبير بهذه الاعتمادات عاماً بعد آخر!
وتجدر الإشارة إلى أنه في عام 2010، أي بعد عام من إحداث الصندوق والبدء بعمله، كان الاعتماد المرصود له في الموازنة العامة للدولة بمبلغ 34 مليار ليرة، أي ما يعادل 680 مليون دولار بحسب سعر الصرف الرسمي بحينه!
وبمقارنة المبلغ المرصود في عام 2010 بما يعادل 680 مليون دولار، وصولاً إلى مبلغ 5,970 مليون دولار في عام 2024، يتبين أن الدعم الموجه عبر هذا الصندوق قد انخفض بنسبة 99٪ خلال السنين الماضية، منذ إحداث الصندوق وحتى الآن، بل وكأن هذا الدعم أصبح شبه صفري!
فرغم حاجتنا الملحة اليوم لآليات دعم حقيقية وفعالة تساعد بالنهوض بالقطاع الزراعي الرافد الاستراتيجي للاقتصاد الوطني، نلاحظ تراجع الدعم وصولاً إلى مبالغ هزيلة، ومع ذلك تستمر الحكومة بالتباهي والتبجح بها!
فخلال السنوات الماضية واصلت الحكومة تخفيض مخصصات صندوق دعم الإنتاج الزراعي، وتزامن هذا التخفيض المباشر مع العديد من قرارات تحرير أسعار المحروقات والأسمدة، وهذا يشير بكل وضوح إلى أن السياسات الحكومية ماضية في إجهازها على القطاع الزراعي، عبر سياساتها وقراراتها وتوجهاتها التي عكست ثقل الجهود الرسمية الحثيثة للعمل على ضرب الإنتاج الزراعي المحلي، وفق منهجية لا تتمثل برفع الدعم المستمر عن القطاع الزراعي فقط، بل والعمل على خلق المزيد من الصعوبات أمام المزارع لتأمين مستلزمات إنتاجه، مع سياسات تسعير مجحفة لبعض المحاصيل الاستراتيجية، متجاهلة عن عمد أن هذا القطاع لا يزال الضمانة الحقيقية للأمن الغذائي، والرافد الأساسي للاقتصاد الوطني!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1176