قتلوا الأعياد والمناسبات.. ومثلوا بها!

قتلوا الأعياد والمناسبات.. ومثلوا بها!

سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وانعدام الحال عند أغلبية الأسر السورية، ألقى بظلاله على احتفالات الميلاد ورأس السنة!

فمعظم الأسر باتت عاجزة عن تأمين قوت يومها، فكيف لها التفكير بالعيد؟!
فلا ثياب جديدة للأطفال ولا حلويات ولا هدايا، فكل ما سبق يحتاج إلى ميزانية تتجاوز راتب الموظف بعشرات الأضعاف!
فأين فرح الأطفال وضحكاتهم، وأين إيجابيات التواصل الاجتماعي بهذه المناسبات، وكيف أصبح طغيان الحزن والكآبة واليأس على حياة غالبية السوريين أمراً اعتيادياً، ومن أحال مناسباتهم وأعيادهم إلى عبء ثقيل، بدلاً من أن تكون فرصة فرح لهم ولأطفالهم؟!

الأعياد ليست للفقراء!

ميلاد السيد المسيح ورأس السنة الميلادية، كغيرها من المناسبات، اعتاد السوريون الاحتفال بها والاستمتاع بطقوسها، ابتداء من الزينة التي كانت تغطي الشوارع وشرفات المنازل، وانتهاء بالأطعمة والشوكولا وبابا نويل!
لكن هذه السنة، كما غيرها من السنين القاسية الماضية، لا زينة ولا كهرباء، والشوارع معتمة موحشة، فلا أضواء ولا احتفالات، ولا أطفال تضحك وتفرح لرؤية بابا نويل، فقد أصبحت حتى مرافقته أو التصوير معه مأجوراً!
هذا هو واقع كل الأحياء المفقرة والمهمشة في مدننا، فالغلاء الفاحش سيد الأسواق، والهموم تتثاقل على عاتق الفقرين الذين بات شغلهم الشاغل تأمين وسيلة تدفئة والقليل من الطعام، وحديثهم يقتصر على ذكريات الأعياد دون أن يعيشوا أفراحها!
فالدخل محدود والقرارات الحكومية وسياسات الإفقار سدت على هؤلاء الأفق، لتطحنهم وتدفن أفراح مناسباتهم وأعيادهم بمهدها!
ولكن هذا لم يمنع أنه على الطرف الآخر، ظهور البذخ والترف بأبشع صوره الاستهلاكية، هناك الفنادق الضخمة والمولات الفاخرة والمطاعم الفخمة والاحتفاليات الباذخة، وحيث تكاد الأضواء تعمي البصر من شدتها!
فالاحتفال بالميلاد والاستمتاع بجماله، ككل المناسبات والأعياد الأخرى، أصبح حكراً على الطبقة الغنية المخملية المترفة فقط لا غير!
فتكريس الفرز الطبقي بنتيجة سياسات الإفقار المعمم تَرافق مع تكريس التفاوت الطبقي المشوّه بإحياء المناسبات والأعياد، وصولاً إلى دفنها لدى المفقرين، ومنحها شكلاً أكثر تشوهاً لدى المترفين!

«الكريسماس ماركت» نموذج عن التشوه المنظم!

تم افتتاح «سوق الميلاد» لعامه الثاني على التوالي في مدينة المعارض القديمة بدمشق، وبدل أن تنشر هذه الفعالية روح العيد والفرحة وتعممها، جاءت لترسخ التفاوت الطبقي، ولتثبت أن الحياة باتت حكراً فقط على أبناء الطبقة المخملية، مشوهة المعنى الحقيقي لميلاد السيد المسيح ببعده الإنساني والاجتماعي، وبجوهره القائم على المحبة والعطاء والتضحية، وخاصة بالنسبة للأطفال!
فرسم الدخول إلى هذه الفعالية وحده يخلق ذاك الإحساس بعدم الانتماء للمكان، وبأن هذه الاحتفالية ليست للشريحة العظمى من السوريين!
فسعر بطاقة الدخول للطفل 10 آلاف ليرة، أما البالغون 20 ألف ليرة، ما يعني أن الأسرة المكونة من 5 أفراد، أب وأم وثلاثة أطفال، بحال نيتهم التمتع بالاحتفالية، ستكلفهم الدخولية فقط مبلغ 70 ألف ليرة، أي بحدود نصف راتب الموظف الشهري، فأي أسرة تستطيع دفع هكذا مبلغ غير منطقي للدخول فقط؟!
وعند دخول السوق «مكان الاحتفالية» وبعد تجاوز حاجز التفتيش، ومن ثم شباك قطع التذاكر لتأخد بطاقتك وتسير خطوة واحدة فقط، يستقبلك أحد المنظمين ليأخذها ويمزقها فوراً، دون أن يتسنى لك الوقت للنظر إليها، أو قراءة ما كتب فيها!
بعد ذلك تتلقفك في المكان عبارة “l love Damascus” دون أن تترك ذاك الأثر الإيجابي المتوخى منها، فهي معتمة كحال مدينة دمشق وضواحيها المفقرة، وكأنها رسالة مبطنة لتفرغ العبارة من مضمونها!
وفي الجهة المقابلة للعبارة توجد القلعة المضيئة، ولتبدأ مظاهر البهرجة في مشهد مثير للاستغراب والدهشة، وعندها تدرك أن كل ما في هذا المكان يرسخ لك مفهوم «الناس يلي فوق والناس يلي تحت»!
فالسوق عبارة عن أكشاك خشبية، أقيمت على غرار الأسواق الأوروبية التي تفتتح في عيد الميلاد، فالتصميم باذخ مع أضواء لشجرة الميلاد الكبيرة والقلعة والأكواخ والدب الكبير، أضواء كثيفة توحي للسوريين بأن التقنين الكهربائي ولّى وانتهى!
فالأكواخ خشبية وقد زينت ببذخ مبالغ به، واحتلتها ماركات تبيع منتجاتها بأسعار فلكية!
فقد بلغ سعر عبوة البيبسي 22 ألف ليرة، في حين تجاوز سعر كأس «الهوت شوكليت» 28 ألف ليرة، أما عن أسعار الطعام فتبدأ من 50 ألف ليرة، فيما وصل سعر البالون إلى 20 ألف ليرة، أما الحلويات فيصل سعر أصغر قطعة إلى ما يقارب 15 ألف ليرة!
وفي وسط السوق توجد مساحة لا بأس بها زينت بالنجوم الذهبية ورتبت على هيئة «كافيه» برسم دخول 30 ألف للشخص ويسمح لك بتناول مشروب، أما في حال أردت ترفيه نفسك بنرجيلة فعليك دفع 60 ألف ليرة!
وفي صدر السوق توجد شاشة كبيرة تعرض إعلانات للماركات الموجودة، ومنصة للعروض الفنية، ويوجد أيضاً مساحات مخصصة لألعاب الأطفال، كالسفينة والمراجيح وغيرها، وبرسوم باهظة طبعاً!
فالبذخ مبالغ به، بالزينة وبالأسعار اللاهبة، وصولاً إلى المتوافدين بثيابهم وسياراتهم و»خادماتهم»!
فهناك من يسحب حيوانه الأليف ليطعمه ويرفه عنه في «الكريسماس ماركت»، وآخر يرسل طفله مع الجليسة «الخادمة» ليشتري ما يريد ومهما كانت التكلفة!
فكل ماهناك يثبت أن هذا المكان أعد ليستقطب فئة قليلة من المترفين، أما أصحاب الدخل المحدود والمفقرون فهم عاجزون حتى على زيارته!
والخلاصة ببساطة أن راتب شهر كامل لا يكفي ثمن قطعة ملابس واحدة أو وجبة طعام مشبعة مما هو معروض في هذه الأكواخ الخشبية الباذخة، فالأسعار لاهبة ولا تمت لواقع المفقرين بصلة، وهي متاحة فقط للشريحة الثرية والمترفة!

تناقض فاقع ومفارقات!

عشرة أقدام فقط هي المسافة الفاصلة بين النور والبذخ والإسراف والترف في المكان المخصص للاحتفالية أعلاه داخل مدينة المعارض القديمة بدمشق والشريحة المستهدفة منها، وبين الظلمة والشقاء والفقر واليأس عند مدخلها تحت جسر الرئيس، حيث البسطات الشعبية وأصحابها المفقرون الذين يتلقطون رزقهم، وازدحام الشعب المفقر الذي ينتظر وصول الباص أو السرفيس لتبدأ رحلة التدافع «والمطاحشة» للحصول على موطئ قدم بوسائل المواصلات، مع كثرة من المتشردين والجياع والمتسولين، نساء ورجالاً وأطفالاً، في المكان!
تناقض لا يمكن إلا أن تلاحظه كتعبير مكثف عما وصلت إليه الحال من تفاوت طبقي فج يتم تكريسه برعاية رسمية منقطعة النظير!
فمحافظة دمشق، التي خصصت المكان للاستثمار بهذه المناسبة «عيد الميلاد»، وباسمها، وهو للعلم يعتبر من الملكيات العامة افتراضاً، سخرت إمكاناتها مع إمكانات الشركة المنظمة والمستثمرة لاستقطاب شريحة الأثرياء والمترفين، مع كل مترتبات هذا الاستثمار من بذخ وترف وماركات وترفيه وإضاءة وكهرباء مستمرة دون انقطاع، وسط أزمة كهربائية مستفحلة دون حلول، على مرأى المفقرين الذين يبعدون عن هذا المكان عشرة أقدام فقط، كرسالة أكثر جوراً وظلماً معممة على كل المفقرين في البلاد، أن اذهبوا إلى الجحيم بمنغصات عيشكم التي تمنع عنكم الاحتفال بهذه المناسبة أو غيرها!
فالمواطن المفقر بواد، وحكومته ومسؤولوه بواد آخر، وسط الأزمات المتفاقمة المفروضة عليه!
ففي حين يعيش معظم السوريين بلا كهرباء ولا غاز ولا ماء ولا تدفئة، وأطفالهم يعانون البرد والجوع والحرمان، هناك القلة المحظية والمدعومة رسمياً التي تعيش الثراء الفاحش والبذخ والترف!
ولا يقف الأمر عند هذه الحدود بل تستمر الحكومة بسياساتها التمييزية والطبقية لتدهس المفقرين وتزيد عليهم آلامهم، تعميقاً لأحزانهم وتكريساً لدفن أفراحهم ومناسباتهم، مع التمثيل بها وتشويهها وفقاً للنماذج الاحتفالية التي ترعاها، وتيئيساً من إمكانية الخلاص من هذه السياسات الظالمة بنتائجها الكارثية على حياتهم ومعاشهم وخدماتهم!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1154