إنه الشتاء السوري مرة أخرى.. يا للمفاجأة!
كل عام، مع اقتراب فصل الشتاء، يواجه السوريون سيناريو متكرر لم يعد يثير الدهشة، حيث يستحضر أصحاب القرار في البلاد باستمرار نفس الحجج والمبررات الواهية لتبرير تقاعسهم في مواجهة أزمة التدفئة والمحروقات. تتعامل الحكومة مع فصل الشتاء وكأنه ظاهرة غير متوقعة، تفاجئها سنوياً دون أي استعداد أو خطة واضحة لمواجهته. هذا النمط من الإهمال والتبريرات السطحية لا يعكس فقط ضعفاً في الإدارة والتخطيط، بل يشير إلى عدم الاكتراث بمعاناة الملايين من السوريين الذين يواجهون البرد القارس كل شتاء.
الأزمة الخانقة التي تواجه الشعب السوري في فصل الشتاء تكمن في النقص الحاد في المحروقات، وبالأخص المازوت والكهرباء، اللذان يعدان عنصرين حيويين في تدفئة المنازل. هذا النقص، الذي يزداد حدة مع كل شتاء يمر، يعود في جزء كبير منه إلى أقنية الفساد الكبير التي تستخدم ملف المحروقات بوصفه واحداً من مواضع النهب الممكن.
على هذا الأساس، تبقى الوعود الحكومية بتوزيع المازوت حبراً على ورق في أغلب الأحيان، حيث تبقى الكميات الموزعة غير كافية لتغطية ربع احتياجات الأسرة من المازوت خلال الشتاء. ولا تصل في كثير من الأحيان إلى العائلات الأكثر احتياجاً في المناطق النائية والأكثر برودة. هذا النقص المتكرر يكشف عن عمق الأزمة ويعكس الحاجة الماسة لإجراءات عملية وفعالة تتجاوز الحلول الترقيعية الحالية.
البدائل الترقيعية ومحدودية فعاليتها
في ظل هذه اللامبالاة الرسمية إزاء الناس، يجد السوريون أنفسهم مضطرين للبحث عن بدائل ترقيعية للتدفئة، مثل استخدام الحطب، البيليت (وقود حيوي مصنوع من مخلفات الأشجار وبقايا المحاصيل الزراعية)، التمز (مزيج من قشور الزيتون والبذور)، ومدافئ الكهرباء. وعلى الرغم من أهمية هذه البدائل في توفير بعض الدفء للعائلات، إلا أنها تظل حلولاً غير كاملة وغير كافية لمواجهة برد الشتاء القارس. حيث تعكس هذه «الحلول» التي تستنزف الناس وجيوبهم دون أن تسد حاجتهم فعليا،ً الحاجة الشديدة لتوفير حلول دائمة لمشكلة التدفئة، حيث ترتفع تكاليف هذه البدائل بشكل ملحوظ، وغالباً ما تكون خارج متناول العائلات الفقيرة والمتوسطة.
الاستنزاف المستمر والمتواصل بحثاً عن بدائل
خلال الشتاء، يجد السوريون في العديد من مناطق البلاد أنفسهم في دوامة مستمرة من الاستنزاف المالي، فنتيجة للضرورة الملحة لتبديل مصادر التدفئة باستمرار بحسب توفر المادة الأولية. تتأرجح خياراتهم ما بين الحطب، والمازوت، والكهرباء، وأنواع التدفئة الهجينة الأخرى، مما يتطلب كلفاً جديدة لشراء مدافئ جديدة. وهذا التنقل الدائم بين مصادر الوقود ليس مكلفاً فقط من الناحية المادية، بل يتطلب أيضاً جهداً ووقتاً كبيرين للحصول على هذه المواد في ظل النقص الشديد والأسعار المرتفعة.
وهو استنزاف يتعرض له السوريون في موضوع بدائل الكهرباء أيضاً. فمع الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي، يضطرون لاستثمار مبالغ طائلة في شراء وتجريب بطاريات مختلفة وألواح شمسية ومصابيح LED، وغيرها من البدائل لتأمين الطاقة علماً أن جزءاً كبيراً من هذه البضاعة في السوق رديئة الإنتاج. ما يؤكد على أن غياب الحل الحقيقي الجذري يؤدي إلى استنزاف موارد الأسر السورية بشكل لا يطاق، حيث يتحول البحث عن الدفء والضوء في الشتاء إلى نضال مستمر، يستهلك جزءاً كبيراً من مدخراتهم ويضعهم في موقف صعب للتعامل مع الاحتياجات الأساسية الأخرى.
الوقود الحيوي ومحدودية دوره
يُعد الوقود الحيوي، مثل البيليت، حلاً صديقاً للبيئة وأقل تكلفة من المحروقات التقليدية، ولكنه لا يزال غير قادر على سد الفجوة الكبيرة في احتياجات التدفئة للعديد من السوريين. حيث ترزح العائلات السورية تحت ضغط الصعوبات في تحمل تكاليف هذه البدائل، وخاصة في المناطق التي تشهد درجات حرارة شديدة الانخفاض.
فوق ذلك، تتسم سوق الوقود الحيوي في بعض المناطق السورية بعدم الاستقرار وبتقلب الأسعار، ما يجعل إمكانية تأمينها والوصول إليها أمراً غير مؤكد وغير مضمون.
«البطاقة الذكية» التي زادت النهب نهباً
عندما اتخذت الحكومة السورية قرار تحويل عملية توزيع المازوت إلى نظام البطاقة الذكية، وعدت الحكومة بأن هذه الخطوة ستضع حداً لأزمة المازوت وتضمن التوزيع العادل له. كانت الفكرة تدور حول أن «البطاقة الذكية» ستساعد في ضمان توزيع المازوت بكميات كافية لكل أسرة، بما ينهي معاناة السنوات الطويلة من النقص وعدم العدالة في التوزيع.
مع ذلك، لم يمض وقت طويل قبل أن يدرك السوريون أن هذه الوعود كانت مجرد سراب. وبدلاً من تحسين الوضع، اكتشفوا أن الفساد قد تفشى أكثر، حيث باتت البطاقة الذكية وسيلة جديدة للتلاعب والنهب.
المشكلة الأساسية لم تكن أبداً في آلية التوزيع بحد ذاتها فقط، بل في الطريقة التي يتم بها إدارة جهاز الدولة نفسه. حيث أدى تسلط الفاسدين على مقدرات الدولة واستغلالهم لمواردها إلى استمرار حرمان الشعب السوري من حقوقه الأساسية. هذا الواقع يكشف عن عمق الأزمة ويؤكد على أن الحل ليس في تغيير أدوات التوزيع فقط، بل في التغيير الجذري للنظام ولطريقة إدارة جهاز الدولة بما يوفر للسوريين ما يستحقونه من خدمات أساسية ومن بينها التدفئة الكافية خلال فصول الشتاء القاسية.
لا شتاء دافئ دون اجتثاث الفساد
تقع المسؤولية الأساسية لهذه الأزمة على عاتق أصحاب القرار في البلاد الذين لم يتمكنوا من توفير حلول جذرية لأزمة المحروقات والتدفئة بل زادوها سوءاً ووبالاً على طول الطريق.
لينعم الشعب السوري بالدفء والأمان خلال فصول الشتاء القاسية، فإن ذلك يتطلب توفير دعم مستدام وتأمين موارد كافية. هذه الموارد، المفتاح الأساسي لحل أزمة التدفئة، يمكن العثور عليها في مكان واحد يُغفل عنه غالباً، جيوب الفساد الكبير الذي ينخر في جسد الدولة ويسلب الشعب السوري.
يعبث الفساد الكبير في مختلف مفاصل الدولة، حيث يتم تحويل الأموال المخصصة للمشروعات العامة والخدمات الأساسية (وهي مخصصات هزيلة أساساً وتتناقص قيمتها سنوياً)، بما فيها تلك الموجهة لمعالجة مسألة التدفئة، إلى جيوب الفاسدين الكبار عبر أقنية عدة.
لا يسرق هذا الاستغلال والنهب الممنهج الشعب السوري ويحرمه من حقه في حياة كريمة فقط، بل يعرقل أية إمكانية لتوفير الحلول الفعالة لمشكلات مثل التدفئة. لهذا فإن الوضع يتطلب بالضرورة اجتثاث هذا الفساد وتوجيه الموارد المستردة نحو تعزيز البنية التحتية للطاقة، وتوفير المحروقات بشكل عادل وفعال. ومن خلال توجيه هذه الأموال المنهوبة وتوظيفها في مشروعات حيوية، يمكن تحقيق خطوات ملموسة نحو توفير شتاء دافئ وأكثر أماناً لجميع السوريين.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1148