لأطباء الأسنان معاناتهم كمواطنين وأصحاب مهنة أيضاً!
أصبحت الطبابة بالنسبة للغالبية المفقرة من السوريين خيارهم الأخير، بسبب التدهور الاقتصادي الكبير والغلاء الفاحش الذي سيطر على جميع مناحي الحياة، والأكثر من ذلك هي طبابة ومعالجة الأسنان التي أصبحت أكثر إهمالاً بالنسبة للغالبية المفقرة وبشدة، نتيجة تكاليفها المرتفعة!
مقابل ذلك فإن لطب الأسنان خصوصية عن غيره من التخصصات تتمثل بكثرة مستلزماته وتنوع مواده وتذبذب أسعارها، وهذا ما خلق مشكلات جمة عند طبيب الأسنان، ابتداء من انقطاع المواد، وانتهاء باستمرار ارتفاع أسعارها!
فقد بات علاج سن واحد وترميمه يفوق راتب المواطن بضعف لضعفين، وهو ما يعجز غالبية السوريين عن تحمله، خاصة في مثل هذا الوضع الاقتصادي الصعب، لكن المثير للاهتمام هنا حال طبيب الأسنان نفسه، على اعتباره مواطناً أولاً يعاني ما يعانيه جل السوريين بسبب الواقع الاقتصادي المعيشي العام، وصاحب مهنة ثانياً لها أوجه صعوباتها ومعاناتها وتكاليفها!
ومادتنا الحالية مخصصة لتسليط الضوء على أوجه معاناة طبيب الأسنان عن لسان أحد الأطباء المخضرمين بالمهنة، من خلال حديث موسع معه، وسنكثفه قدر الإمكان!
شهادة طب الأسنان مع وقف التنفيذ!
يتخرج طبيب الأسنان الشاب بآمال كبيرة، ليجد الآفاق مسدودة أمامه!
فهو عاجز عن مزاولة المهنة لعدم توفر مكان ومالٍ للعيادة، ولتجهيزاتها المكلفة!
كيف ذلك وقد غدت تكاليف بدء العمل بهذه المهنة تعادل مليارات الليرات!
بمقارنة بسيطة ما بين عام ٢٠٠٥ وعامنا الحالي نجد أن تكاليف فتح عيادة متواضعة في عام ٢٠٠٥ كانت تصل لما يقارب ٥٠٠ ألف ليرة، أما الآن فهذه التكاليف تجاوزت ١٤٠ لـ٢٠٠ مليون ليرة بالحد الأدنى، وبتجهيزات محدودة!
فمَن مِن خريجينا الشباب لديه القدرة المالية لفتح عيادة ومزاولة المهنة بهذه التكاليف المرتفعة؟!
فجهاز التعقيم لوحده يكلف ٣٠٠٠ دولار، أي ما يعادل ٤٥ مليون ليرة سورية، ويضاف إليها المقطرة بـ ٥٠٠ دولار، وآلة التختيم كذلك، ليغدو التعقيم لوحده يكلف ٤٠٠٠ دولار، وهو الأمر الذي لابد ولا غنى عنه بأي عيادة!
فالشاب الخريج، وأمام التكاليف المرتفعة والمرهقة أعلاه، سيبحث عن ملاذات وفرص عمل أخرى خارج البلاد، إن أتيح له ذلك طبعاً!
فالتكاليف لوحدها تعتبر أحد عوامل التطفيش والنبذ لهؤلاء الخريجين الجدد!
المستلزمات.. مروحة واسعة متحكم بها!
معظم المواد المستخدمة في علاج الأسنان يشتريها الطبيب من مستودعات متخصصة بمستلزمات طب الأسنان، والتي بدورها تؤمنها من الوكيل المعتمد، فهي مواد مستوردة بمجملها!
أما القسم الثاني، وهو القليل جداً، فيوجد إنتاج محلي محدود منه، كمادة المخدر والحشوة المؤقتة!
وبما يخص المواد المستوردة، فنتيجة الحصار والعقوبات انقطعت المواد التي اعتاد الطبيب عليها، فأصبح الوكيل يلجأ لمواد غير معروفة بالنسبة للطبيب ومن مصادر مجهولة أحياناً، ويروج لها على أنها مادة بجودة عالية، أي أنه يختار المصدر الأرخص، بغض النظر عن الجودة، ويبيعه بالسعر الأعلى ليحقق أرباحاً على حساب الطبيب والمريض، وكونه الوحيد المتحكم بالسوق يفرض المادة والسعر الذي يريد، ووجد الطبيب نفسه مجبراً على استخدام المادة المتوفرة ليستمر عمله، برغم أنها لم تعد بذات الفعالية والجودة!
ثم ظهرت طرق ملتوية لإحضار المواد المألوفة عند الأطباء وذات المواصفة والجودة الجيدة، لكن بأسعار عالية جداً قد تصل أحيانا لأكثر من قيمة المادة نفسها عالمياً، أسعار يحددها المورد ويتحكم بها، وهي أسعار محسوبة دولارياً ومتقلبة يومياً!
أما عن التحكم والسيطرة من قبل هؤلاء الموردين فحدث ولا حرج عن كيف ولماذا، مع غياب الرقابة طبعا!
فالتذبذب السعري والتحكم به يشمل غالبية المواد والمستلزمات، عدا الزرعات فهي الوحيدة التي تعتبر مستقرة السعر نسبياً، لأن لكل زرعة شهادة نظامية من شركة المنشأ، وسعر عالمي بالقطع الأجنبي معروف، لا يستطيع الوكيل التلاعب به لتحقيق أرباح تحكمية إضافية غير مشروعة فيها!
كل هذا وضع الطبيب تحت ضغط كبير، وأمام خيارات محددة ومفروضة عليه، وجعله بالتالي عرضة لاستغلال المورد والوكيل والمستودع، الذين يفرضون النوع والسعر والمصدر والمواصفة!
فالحشوات الضوئية على سبيل المثال، هناك ما سعره ٥٠ ألف ليرة، وهناك ما يقارب سعرها ٤٠٠ ألف ليرة، حسب المصدر والمورد والنوع!
تكاليف الخدمة وجيب المواطن!
ومن هنا نستطيع القول: إن سعر الخدمة الذي يدفعها المواطن وجودتها لا تتوقف فقط على مهارة طبيب الأسنان، بل أيضاً على المواد المستخدمة والتقنية المتبعة!
إذ هناك تقنيات قديمة جداً (زرنيخ، أقماع ريزين) خاصة فيما يتعلق بالمعالجات السنية، كسحب العصب، وهناك الأجهزة الحديثة كجهاز (الروتري- جهاز التوسيع الآلي- المقياس الزغبي والمجهر)، وهذا كله يفرض بدوره تكاليف إضافية!
فأقل جهاز بـ٤ لـ٥ آلاف دولار، وصولاً للمجهر الذي يعادل ١٠٠ ألف دولار، أضف لذلك تكاليف الصيانة الدورية والمواد المختلفة!
إذ يحتاج سحب العصب على سبيل المثال لأربع قياسات من الأقماع، سعرها اليوم ما بين ٧٥ لـ ١٠٠ ألف ليرة، في حين أن الإجراء نفسه بالاعتماد على التقنية الحديثة أو الآلية يكلف الطبيب ٣٠٠ ألف ليرة، أي ثلاثة أضعاف، وكل هذا سينعكس على سعر الخدمة التي سيتلقاها المواطن، ومن جيبه!
المخدر.. الخبز اليومي لمهنة طب الأسنان!
للمخدر مصادر مختلفة منه (الصيني، الكولومبي، الكوري، الإيراني، السويسري، الأمريكي، الإيطالي..) بجودة وبفروق أسعار مختلفة، إذ يختلف سعر المخدر بين مادة وأخرى تليها بالجودة بما يقارب ٢٥ ألف ليرة سورية!
كما يوجد مخدر محلي الصنع، لكنه لم يكن مستخدماً سابقاً، فحسب آراء العديد من الأطباء، يعاني المنتج المحلي من قلة الفعالية، كما أن أسعاره تقارب المستورد، والذي يعد أفضل منه!
مقارنة بسيطة تسلط الضوء على شكل آخر من الاحتكار!
سعر علبة المخدر المحلي التي تحتوي ٥٠ أنبولة تعادل ١٨٠ ألف ليرة، بينما العلبة نفسها مستورد (أندونيسي أو كولومبي) تعادل ٢٠٠ لـ٢٢٠ ألف وبفعالية أقوى!
حيث يحتاج الطبيب لـ٣ أنبولات من المنتج المحلي لتعادل أنبولة من المستورد، والمشكلة ليس فقط بفعالية المواد، فالأنبولة ذاتها تكسر بمجرد وضعها بالمحقنة، ورأس الإبرة يسقط بسهولة فهو غير ثابت!
أضف لذلك، أن الإنتاج المحلي محتكر من قبل شركة ابن زهر، الشركة الخاصة الوحيدة المصنعة لمخدر الأسنان محلياً، مما سمح لها بفرض منتجها وبالسعر الذي تريد!
وهذا انعكس سلباً على وزارة الصحة أيضاً، فجميع عيادات الأسنان في المراكز الصحية الآن متوقفة عن العمل نتيجة عدم توفر المخدر!
وعند السؤال، تبين أن مناقصة شراء المخدر من شركة ابن زهر متوقفة!
أما لماذا فهو بسبب قيام شركة ابن زهر برفع الأسعار!
فالوزارة مقيدة بشراء المنتج المحلي دعماً له، وهو أمر جيد طبعاً، لكن وصل الأمر لتوقف المراكز الصحية عن العمل، وعلى حساب آلام المواطنين!
ولعل الأمر يصبح أسهل وأخف وطأة بحال تكريس دعم الإنتاج الوطني وتعميمه، وكسر حال الاحتكار في بعض منتجاته، والأهم بهذا الصدد هي شركة تاميكو العامة من خلال توسيع مروحة منتجاتها، بما في ذلك المخدر!
نفقات إضافية غير محسوبة تثقل كاهل الطبيب أيضاً!
لم يكن الطبيب يحسب حساب تكلفة (المحارم، الكؤوس البلاستيكية، ولا حتى مواد التنظيف) وما إلى ذلك من مستهلاك يومية في عيادته!
فعلى سبيل المثال: علبة اللفافات القطنية كانت تكلف الطبيب ١٠٠٠ ليرة، أما الآن فهي تكلف ٢٠٠ ألف ليرة، وكل هذه تكاليف لا يلاحظها المريض كمستهلكات ذات قيمة، وبمجموعها تشكل مبالغ كبيرة كل شهر!
يضاف لذلك، فاتورة الكهرباء الكبيرة رغم ساعات التقنين الطويلة، والتي فرضت على طبيب الأسنان الاتجاه نحو البدائل، فاعتماده على الكهرباء ضروري وكبير، وكل شيء بثمنه طبعاً!
يضاف لذلك، المياه كضرورة لا غنى عنها طبعاً في مهنة طب الأسنان مع تكلفتها مهما كانت، ورسم الخدمات للبلدية رغم غيابها، وكلها تعتبر مبالغ صغيرة إذا ما قورنت بتكاليف صيانة معداته وتجهيزاته، بدءاً من مقبض الكرسي الذي يبدل كل شهر تقريباً وبتكلفة وسطية ٣٠٠ ألف، وصولاً لضاغط الهواء الذي يحتاج لصيانة دورية!
فعلبة الأقماع المستخدمة في سحب العصب من المفروض أن تستخدم لمرة واحدة فقط، ولكن وبسبب تكلفتها الكبيرة ٦٠٠ ألف تغدو تكلفة السن الواحد مليون ليرة، وهذا غير مقبول، مما يجبر الطبيب على تعقيمها وإعادة استخدامها مرات عديدة، موزعاً سعرها على عدد من المرضى!
والملفت هنا، أن بعض المعدات والمستلزمات تتعرض للتهالك، فمن الممكن أن تكسر داخل السن فتؤدي لخطأ طبي ينقل المريض من حالة لحالة، وكثيرة جداً هذه الحالات، بغض النظر عن درجة تأثيرها على المريض!
التكليف الضريبي.. أعباء وإعاقات!
ضريبة الدخل بالنسبة لطبيب الأسنان تقدر بنسبة ٣٠٪ من دخله، والتي من المفترض من باب العدالة الضريبية أن تحتسب على الأرباح فقط!
فحسب ما أكده العديد من أطباء الأسنان، أنه ليس لديهم أي مانع من تحديد تسعيرة واضحة لكل علاج وبشكل رسمي، استناداً لدراسة واضحة عن تكاليفها حسب نوع مستلزماتها ومصادرها، مع تحديد هامش الأرباح استناداً على ذلك، وبالتالي، توضيح التكلفة النهائية التي من المفترض تقاضيها من المريض، ولا مانع من فرض وضعها بكل عيادة، لكن برغم طرح هذا الموضوع عبر القنوات الرسمية إلا أنه لم يلقَ تجاوباً!
فالمالية تقدر الربح على كامل الأجر المتقاضى من المريض، متناسية موضوع المستلزمات وتكاليفها الغالية جداً على الطبيب!
ليس هذا وحسب، فطريقة تقدير الضريبة اعتباطية غالباً، فهي تعتمد على التقدير الشخصي، والحالة المزاجية لمراقب الدخل اعتماداً على طبيعة ملكية العيادة وديكورها وسعتها، والمدة المنتظرة من المريض لحين وصول دوره، وغيرها من الشكليات بعيداً عن الأساسيات المرتبطة بالتكاليف الحقيقية وهوامش الربح الفعلية التي يحصل عليها الطبيب، ولا يمنع هنا طبعاً أن نأخذ بعين الاعتبار عوامل الفساد التي تقلص التقدير، وبالتالي كتلة التكليف الضريبي!
فالحسبة التي يتم اعتمادها هي مقدار ثلث دخل الطبيب المقدر من مراقب الدخل، وعلى مدار 280 يوم عمل خلال العام!
فمثلاً، يقدر المراقب دخل الطبيب اليومي بمبلغ 500 ألف ليرة، وبالتالي فإن دخله السنوي التقديري يكون 140 مليون ليرة، على ذلك فإن الضريبة المستحقة عليه للمالية تكون 42 مليون ليرة سنوياً!
هذه الملايين السنوية كضريبة شكلت عبئاً كبيراً على الكثير من أطباء الأسنان، فقد علمنا أن هناك ١٧ طبيب أسنان في مدينة جرمانا لوحدها، اضطروا لإغلاق عياداتهم نتيجة الإجحاف الممارس عليهم بسبب التقديرات الاعتباطية لمراقبي الدخل، والسياسات المتبعة لدى وزارة المالية بهذا الشأن، والاعتراضات التي لا تأتي بنتيجة!
ازدواج ضريبي يضرب بالعدالة الضريبية عرض الحائط!
وتجدر الإشارة إلى أن المواد والمستلزمات المستخدمة من قبل طبيب الأسنان من المفترض أنها خضعت للضريبة عند استيرادها، وبالتالي، فمن المفترض ألا تفرض على طبيب الأسنان ضريبة عليها، أو أن يتم تخفيض ضريبته السنوية استناداً لحجم استهلاكه من هذه المواد والمستلزمات!
لكن واقع الحال يقول: إن هذه المواد تخضع للضريبة عند استيرادها من قبل الوكيل، وعند توزيعها على المستودعات، وعند وصولها إلى الطبيب، وكذلك تؤخذ بعين الاعتبار عند استهلاكها من قبل الطبيب لمصلحة المريض!
هذا الشكل هو تكريس للازدواج الضريبي الذي من المفترض إنهائه من باب العدالة، وبما يحقق مصلحة المريض وهو الأهم، لكن لا حياة لمن تنادي!
خلاصة بعهدة الحكومة!
ما سبق أعلاه ،ليس من باب المحاباة لأطباء الأسنان بمجملهم طبعاً، لكنه يسلط الضوء على بعض أوجه معاناة هؤلاء بما يتعلق بمزاولتهم لمهنتهم، وما يتعرضون له من عوامل استغلال وغبن رسمي وغير رسمي، كممارسات نابذة لهذه الشريحة تؤدي ببعضهم، وخاصة الفئات الشابة من الخريجين الجدد، للسعي نحو السفر خارج البلاد لإيجاد فرص عمل، أو إلى العزوف عن مزاولة المهنة رغما عنهم، والأهم بانعكاسات تكاليفهم المرتفعة، والمتحكم بها من قبل بعض كبار الحيتان، على المرضى، والتي أدت لاستنكاف اللجوء لطبابة الأسنان بالنسبة للغالبية المفقرة بالنتيجة!
مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه المهنة الطبية، كغيرها من المهن، تحتاج إلى المزيد من الاهتمام بمطالب مزاوليها، والتخفيف من الصعوبات التي تعترضهم، خاصة وأن الكثير من قضاياهم ومطالبهم مصاغة ومحولة بشكل رسمي عن طريق نقاباتهم، وبعضها مكرر، سواء إلى وزارة الصحة أو إلى وزارة المالية أو إلى الحكومة مباشرة، لكن دون جدوى!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1147