الواقعية الحكومية تعني المزيد من الإفقار والتجويع!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

الواقعية الحكومية تعني المزيد من الإفقار والتجويع!

نُقل عن رئيس الحكومة، خلال حديثه أمام مجلس الشعب بتاريخ 24/7/2023 في معرض استعراضه للإنجازات الحكومية، والسيناريوهات المنتظرة منها في ظل الإصرار على المضي بالسياسات التدميرية والمفقرة، ما يلي «لا بد من التوجه نحو خيار عملي وواقعي بخصوص أسعار بعض السلع الرئيسية المدعومة، وما يزيد من صعوبات اتخاذ قرارات إعادة هيكلة الدعم هو الفجوة الواسعة والكبيرة جداً بين مستويات أسعار المواد المدعومة من جهة، وتكاليف هذه المواد من جهة أخرى»!

ونقل عنه قوله أيضاً: «الخطورة حقيقة لا تكمن في الظروف التي نعيشها، بقدر ما تكمن في عدم قدرتنا على رؤية تلك الظروف وتحدياتها والتعامل معها، أو تكمن في رؤيتها ثم إنكارها وتجاهلها، وبالتالي الاستمرار بالسياسات نفسها من دون أي تغيير وكأن شيئاً لم يكن»!
وبحسب رئيس الحكومة فإن «تكاليف سياسة الدعم تنعكس ضَعفاً في قدرة الدولة على تأمين المشتقات النفطية، ونقص المشتقات النفطية ينعكس نقصاً في توليد الطاقة الكهربائية وبالتالي نقصاً في الإنتاج»!

الدعم هو المستهدف الرئيسي!

حديث رئيس الحكومة الواقعي أعلاه أغفل عمداً جانباً هاماً من الواقعية العملية على مستوى المقارنة بين أسعار المواد المدعومة وتكاليفها وهو مستويات الدخل المنخفضة للغالبية من السوريين، وعلى الأخص العاملين بأجر لدى مؤسسات الدولة نفسها، والتي تجاوزت مفردة المحدودية إلى شبه الانعدام!
والأكثر من ذلك هو الإصرار على الاستمرار بنفس السياسات التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، ليس على مستوى جرعات الإفقار المتزايدة من خلال سياسات الأجور الظالمة أو سياسات تخفيض الإنفاق العام وتخفيض الدعم الجائرة، بل على المستوى الاقتصادي والوطني العام!
فالسياسات التي يعنيها رئيس الحكومة بحديثه التغييري الواقعي هي فقط سياسات الدعم كاستهداف مباشر بغاية إنهائه، أما كل السياسات التدميرية المطبقة فهي ليست بحاجة للتغيير وفقاً للحكومة والرسميين في السلطة!

سيناريوهات مرسومة بدقة!

على ذلك فإن المتوقع خلال القريب العاجل على ما يبدو أن يتم قضم المزيد من الدعم، ضمن مسيرة إعادة الهيكلة المستمرة له، وصولاً إلى إنهائه كلياً وبأسرع وقت ممكن، وذلك ما يمثل الواقعية العملية التي تحدث عنها رئيس الحكومة تحت قبة البرلمان!
فالحديث المعمم عن الدعم وتكاليفه وفقاً للسياق الحكومي يتجاوز المواد التموينية (الخبز- السكر- الرز)، وأوسع من المشتقات النفطية (غاز- مازوت- بنزين)!
ففاتورة الدعم التي تتحدث عنها الحكومة بأرقامها التريليونية تشمل، بالإضافة إلى ما سبق، الطاقة الكهربائية وبعض مستلزمات الإنتاج والأدوية وبعض أوجه الإنفاق العام على بعض القطاعات مثل القطاع الصناعي والقطاع الزراعي والقطاع الصحي والقطاع التعليمي و..
والوصول إلى إنهاء الدعم وفقاً للمسيرة الحكومية يعني المزيد من التراجع والترهل بكافة القطاعات أعلاه، مع الانعكاسات الكارثية لذلك على حياة المواطنين بمعاشهم وخدماتهم!
فسيناريوهات الاستمرار بإفقار الغالبية مرسومة بدقة متناهية من قبل الحكومة، تماماً كحال سيناريوهات الحفاظ على مصالح القلة من كبار أصحاب الأرباح والناهبين والفاسدين، مع ضمان المزيد من فرص التربح والنهب لهؤلاء، والتي لا تغطيها عبارات الاعتراف بوجود الفساد في ظل غياب المحاسبة، مع تعزيز دوره وتوسيع قاعدته وتعميق كوارثه وموبقاته!

المعادلة الشاذة!

أما المعادلة الشاذة التي أوردها رئيس الحكومة في حديثه فتتمثل بواقع نقص الإنتاج الناجم عن تكاليف سياسة الدعم، بحسب قوله، وهي معادلة مقلوبة رأساً على عقب، مع تعامٍ فاقع عن الأسباب الحقيقية لضعف الإنتاج وتراجعه كنتيجة لجملة السياسات التقويضية والتدميرية لكل ما هو منتج في البلاد (عام وخاص- زراعي وصناعي)!
فعلى سبيل المثال فإن الواقعية الحكومية كانت غائبة تماماً في تحديد سعر شراء القمح من الفلاحين بأقل من التكلفة أو عند حدودها، وبالتالي تكبيد الفلاحين خسائر سنوية تؤدي إلى عزوفهم عن الإنتاج، أي تراجع في المحصول عاماً بعد آخر، وهو ما جرى ويجري مع كل المحاصيل الإستراتيجية الأخرى (القطن- الشوندر- الشعير- الذرة..)، وصولاً إلى زيادة فاتورة استيراد الكثير من المنتجات الزراعية سنوياً وليس القمح فقط، ولعل أمثلة البصل والبطاطا وبعض البقوليات فاقعة بهذا الصدد!
وكذلك فإن الواقعية الحكومية بقيت مغيبة بما يخص محصول الحمضيات طيلة السنوات الماضية، وصولاً إلى تسجيل المزيد من التراجع بإنتاجه عاماً بعد آخر ما أدى إلى قطع أشجار الحمضيات واستبدال زراعة الأراضي بمحاصيل أخرى، أو هجرة الزراعة والأرض، وحال محصول الزيتون وإنتاج الزيت ليس بأفضلها حالاً!
أما الأكثر شذوذاً وتعامياً فهو أن حوامل الطاقة التي يحتاجها قطاع الإنتاج الصناعي (فيول- غاز- مازوت- كهرباء) سحب منها الدعم منذ حين، فهي تحسب على منشآت هذا القطاع وفقاً لحسابات التكلفة الحكومية (المرتفعة)، ما يسقط ذريعة تكاليف الدعم التي تحدث عنها رئيس الحكومة كسبب لضعف الإنتاج، ومع ذلك لا يتم تأمينها بما يكفي حاجات الإنتاج، مما يضطر لتأمين بعضها عبر السوق السوداء وبأسعارها، أو التوقف عن الإنتاج لارتفاع التكاليف، وهو ما يجري تباعاً!
فهل من شذوذ وتعامٍ مقصود أكثر من ذلك؟!

ضعف قدرة الدولة أم إضعافها

أما عن موضوعة ضعف قدرة الدولة فهي تتجاوز ما تحدث عنه رئيس الحكومة، التي اقتصرها على تأمين المشتقات النفطية، بأشواط!
فضعف قدرة الدولة إرادوي ومقصود ونلمسه يومياً على كافة المستويات وفي جميع القطاعات، وهو ليس ضعفاً بقدر ما هو إضعاف منظم ضمن مسيرة تقويضية لدور الدولة ومهامها وواجباتها، وبما يتوافق مع السياسات الليبرالية التدميرية المطبقة منذ عقود، مقابل تعزيز دور ونفوذ قلة من المتحكمين بمصائر العباد ومستقبل البلاد!
وهذا الإضعاف والتقويض لقدرة الدولة لم يكن سببه تكاليف سياسة الدعم بحال من الأحوال، بل هو نتيجة لجملة متراكبة من الأسباب المتشابكة معاً كنتيجة حتمية للسياسات الليبرالية المطبقة بأبشع الأشكال التوحشية!
فالسياسات الأجرية المجحفة والظالمة لوحدها كفيلة بإضعاف دور الدولة وقضم مهامها وتشويهها، اعتباراً من نبذ الكفاءات والخبرات وعدم التمكن من تعويضها بسببها، وصولاً إلى تعميم الفساد في مؤسسات الدولة وتعميقه، فالسياسات الأجرية نفسها فاسدة ومفسدة، ومع ذلك هناك إصرار عليها مع جملة السياسات الفاسدة الأخرى، البعيدة عن التغيير الواقعي بالمنظور الرسمي!

الخطر والخطورة!

حديث رئيس الحكومة تحت قبة البرلمان كان طويلاً ومتشعباً، تبريرياً ومتهرباً من المسؤوليات والواجبات، مع جرعات من التعامي المقصود عن الكثير من العناوين الهامة التي لا سيناريوهات رسمية لها، مثل تحسين الوضع المعيشي للمواطنين كعبارة مكررة وفاقدة لمحتواها!
فنتيجته تمحورت كما سبق أعلاه بالهجوم على سياسات الدعم، وعلى ما تبقى منه بغاية إنهائه كلياً، وفقاً لسيناريوهات موضوعة قيد التنفيذ، مع كل الإصرار على المضي بالسياسات التمييزية والطبقية الجائرة المعمول بها، وغض الطرف عن المخاطر الكارثية لذلك على مصلحة العباد والبلاد!
فالسياسات المطبقة، بحواملها والمستفيدين منها نهباً وفساداً ونفوذاً، هي ما تمثل الخطر الحقيقي، ونتائجها الكارثية هي الخطورة التي لم يحسب لها أي حساب من قبل الحكومة والنافذين، لا على المستوى المعيشي والخدمي للسوريين ولا على مستوى الإنتاج والإنتاجية ولا على مستوى الاقتصاد الوطني ولا على مستوى المصلحة الوطنية عموماً، بما في ذلك مخاطر إعادة انفجار الأزمة بعواقب كارثية ووخيمة مجدداً وبشكل أكبر وأوسع!
وبكل اختصار فإن إنهاء الخطر والمخاطر المحدقة يبدأ بتغيير كل السياسات التدميرية المطبقة جملة وتفصيلاً، مع تقويض إمكانات المستفيدين منها نفوذاً وفساداً ونهباً، كي تستعيد الدولة مكانتها الطبيعية على مستوى دورها ومهامها وواجباتها بما يحقق مصالح البلاد والعباد، أي التغيير الجذري والعميق والشامل، وهو ما يجب أن يكون درءاً لما لا يحمد عقباه من كوارث ماثلة في ظل الاستمرار بنفس هذا النهج التدميري والتخريبي!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1133