حماية الآثار والاستفاقة الرسمية المتأخرة التي لا يعول عليها!
الحريق المؤسف والمؤلم الذي نشب في منطقة ساروجة القديمة وسط العاصمة دمشق بتاريخ 16/7/2023، التهم الكثير من المباني فيها، بما في ذلك قصر اليوسف الأثري كلياً، وكذلك تضررت بسبه مساحة كبيرة من قصر خالد العظم الأثري، مع تسجيل خسارة إضافية كبيرة تتمثل ببعض الوثائق التاريخية الهامة!
وبعيداً عن الخوض في مسببات نشوب الحريق ومتاهاتها، فإن هناك مسؤولية مباشرة وغير مباشرة تتحملها الجهات الحكومية الرسمية قبل غيرها، ليس على مستوى الحريق الحالي بنتائجه الكارثية الكبيرة فقط، بل بسبب عوامل التقصير والإهمال واللامبالاة المستمرة طيلة العقود الماضية، وصولاً إلى الحال المزري للمنطقة ببيوتها المتهتكة والمتهالكة، بما في ذلك التراثية والقديمة المصنفة كآثار، والمحمية افتراضاً من قبل الجهات المعنية رسمياً على المستوى المحلي، ومن قبل اليونسكو كمنظمة دولية معنية أيضاً!
وبعيداً عن كيل الاتهامات المباشرة، يجب ألّا نغفل أهمية الآثار والتراث بحياة الشعوب، وبأن فصل الشعوب عن تراثها والقطع مع تاريخها هي غاية بحد ذاتها تعمل عليها بعض القوى، مسخرة الكثير من الإمكانات لتحقيقها!
الحماية الشكلية كانت وبالاً على الآثار والتراث!
منطقة ساروجة عموماً تعتبر أثرية وتراثية وبالتالي محمية افتراضاً، لكن ذلك كان بالنتيجة وبالاً على بيوتها وسكانها!
فالحماية الشكلية على مر العقود والسنين الماضية كانت تتمثل رسمياً بمنع عمليات الترميم والصيانة لهذه المباني، وبالحد الأدنى صعوبات كبيرة وتكاليف مرتفعة، بالإضافة إلى الكثير من الاشتراطات، التعجيزية أحياناً، التي حالت دون التمكن من عمليات الصيانة المطلوبة للكثير من أبنيتها من قبل مالكيها أو ساكنيها وشاغليها، ومن نتائج ذلك ما يتم تسجيله بين الحين والآخر من تهدم لبعضها، جزءاً أو كلاً، بفعل عوامل الإهمال وعوامل الطبيعة على مر الزمن!
والحال لم يكن أفضل على مستوى المباني الأثرية والتراثية التي بعهدة وزارة الثقافة أو المحافظة، كمسؤولية وإشراف مباشر عليها أو من خلال الاستملاك، فهذه أيضاً أصابها الكثير من الإهمال والاستهتار، وصولاً إلى حال التردي والتهتك على مر السنين!
والأمر لم يقف عند هذا الحد فقط بل تجاوزه إلى أن بعض البيوت الاثرية والتراثية مشغولة ومستثمرة كورشات حرفية ومهنية أيضاً، ما يعني مزيداً من تهتكها وانعدام صيانتها وترميمها!
والأهم من كل ما سبق هو التراخي بعوامل الأمان على مستوى البنية التحية في هذه المنطقة، سواء بما يخص شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء فيها، أو بما يخص تفادي أو الحد من النتائج الكارثية لأي حريق قد ينشب فيها، وهو ما تم دفع ضريبته من خلال سهولة وسرعة انتشار النيران، فلا مصادر إضافية للمياه من أجل عمليات الإطفاء، ولا بنية تحتية مؤمنة لهذه الغاية، ومراكز الإطفاء بعيدة نسبياً عنها، ومن الصعوبة اختراق حاراتها الضيقة!
على ذلك فإن الحريق الكارثي الأخير في منطقة ساروجة الأثرية والتراثية هو آخر ما حرر من نتائج الإهمال واللامبالاة الرسمية وليس بدايته، مع كل أسف!
الكارثة المعممة ومصالح الاستثمار!
هذا الواقع البائس بما يخص منطقة ساروجة الأثرية والتراثية لا يختلف عن غيرها من المناطق الشبيهة في دمشق القديمة ومحيطها، والمسجلة مبانيها ضمن تصنيف الحماية المفترضة، إلا بشكل بسيط ونسبي!
ولعل الاختلاف الوحيد المسجل بهذا السياق هو اختراق الاستثمارات في بعض الأحياء من مدينة دمشق القديمة، والتي فسح المجال لمستثمريها بإجراء عمليات الترميم اللازمة للبيوت المستثمرة من قبلهم، ليس بغاية الحفاظ عليها كتراث وكثروة أثرية، بل بغاية ضمان أرباح مستثمريها فقط لا غير!
والأكثر من ذلك أن الغايات الاستثمارية الربحية من بعض البيوت الأثرية والتراثية في دمشق القديمة كانت سبباً إضافياً لتهالكها، عبر أساليب الفساد والنفوذ، للضغط على مالكيها أو شاغليها كي يخلوها بغاية استثمارها وتحقيق الأرباح السهلة والسريعة منها!
وأي استثمار.. مطاعم وفنادق وبارات و.. لا علاقة لها لا بالتراث ولا بالآثار!
فغزو هذا النمط من الاستثمار كان سبباً إضافياً لتسجيل المزيد من عوامل الاستهتار واللامبالاة الرسمية، ليس تخلياً عن المهام والواجبات والمسؤوليات، بل تكريساً للتضحية بالتراث والآثار، وهو ما جرى ويجري عاماً بعد آخر!
استفاقة متأخرة شكلية أيضاً!
جرى اجتماع بتاريخ 20/7/2023 في وزارة الإدارة المحلية ناقش وضع خطة عمل لحماية المناطق الأثرية والتاريخية من الحرائق.
وقد حضر الاجتماع كل من وزير الإدارة المحلية والبيئة ووزيرة الثقافة، ومحافظ دمشق.
ومن مفرزات الاجتماع، بحسب ما ورد على صفحة الحكومة الرسمية: «وضع خطة لتلافي تكرار الحريق الذي حدث في مدينة دمشق القديمة (حي العقيبة)، والوقوف على الواقع التنظيمي للمنطقة الأثرية والتاريخية وواقع الاستملاك والإشغالات فيها، على أن يشمل ذلك جميع المناطق المشابهة من حيث التكوين والبنى».
الاجتماع أعلاه لن يخرج الزير من البير بالنسبة لمدينة دمشق القديمة بتراثها وآثارها، فهو كأعراض النخوة المفاجئة التي ما تلبث أن تزول وتتلاشى!
فكم من حريق أتى على مناطق وآثار في دمشق القديمة، ولم نلمس جديداً بعده على مستوى اختلاف آليات التعامل مع أبنيته المحمية افتراضاً!
فالحال بقي على ما هو عليه من صعوبات ومعيقات من أجل عمليات الترميم المطلوبة للأبنية في هذه المناطق من قبل مالكيها وشاغليها، والبنى التحتية على حالها من التهتك والترهل، بما في ذلك شبكات الكهرباء السيئة، التي ربما تكون لوحدها كفيلة بنشوب الحرائق واستعارها فيها!
الخشية المشروعة!
أكثر ما يخشى منه مالكو البيوت وشاغلوها في دمشق القديمة هي عمليات الاستملاك التي يتم تبريرها بذريعة الحفاظ على التراث والآثار، والتي لا تكون نتيجتها إلا خسارة لهم، مع استمرار تهتك هذه البيوت إهمالاً واستهتاراً، وهو ما جرى خلال العقود الماضية!
ولعل الحريق الأخير في ساروجة دليل على ذلك، فقصر خالد العظم لم يسلم من الحريق، وقصر اليوسف أصبح أثراً بعد عين!
وقبل ذلك ما زالت مشكلة حي الحمراوي في دمشق القديمة قائمة ومستمرة دون حلول حتى تاريخه!
والمثال الفاقع على مستوى نمط الحفاظ على التراث والآثار الرسمي هو واقع حال محطة الحجاز الراهن، وما جرى لسوق القرماني خلال السنوات الماضية، والأهم من كل ما سبق هو مثال مجمع يلبغا بكتلته الإسمنتية الكبيرة، على أنقاض بعض الآثار التي دفنت تحته، والكثير من الأمثلة الشبيهة، سواء في دمشق أو بغيرها من المدن على طول البلاد وعرضها!
فالحديث الرسمي أعلاه عن «الواقع التنظيمي للمنطقة الأثرية والتاريخية وواقع الاستملاك والإشغالات فيها» ربما يكون تمهيداً لمزيد من الاستملاكات، سواء في منطقة ساروجة أو غيرها من أحياء دمشق القديمة المبوبة ضمن الحماية، مع عدم ضمان الحفاظ عليها طبعاً!
طغيان عقلية الاستثمار!
ما جرى ويجري بحق التراث والآثار، والمناطق المسجلة على قائمة الحماية المحلية والدولية، في البلاد عموماً، هو بعهدة الحكومة وجهاتها الرسمية المعنية قولاً واحداً كمسؤولية وواجبات، بكل ما يتعرض له أو يطرأ عليه، ولا يعفيها من ذلك أي مبرر أو ذريعة، حتى ولو كان ذلك بفعل عوامل الطبيعة!
لكن الاستفاقة الرسمية المتأخرة، ووفقاً لسير الأمور على أيدي الرسميين خلال العقود والسنين الماضية، قد لا تشي بالخير، لا بالنسبة لمالكي البيوت في المناطق المحمية باسم التراث والآثار، ولا بالنسبة لهذه البيوت نفسها على مستوى حمايتها الفعلية!
فعقلية الاستثمار هي الطاغية بالمنطق الاقتصادي الذي يحكم البلاد، وهي ذات الأولوية بالاهتمام الرسمي، بما في ذلك الاستثمار بالآثار والتراث، سواء بشكل مباشر من خلال المحافظة عليه شكلاً كحال المطاعم والبارات في دمشق القديمة، ووصولاً إلى دفنه إن اقتضت مصالح الاستثمار ذلك، كحال مجمع يلبغا وسوق القرماني!
الحلول ممكنة!
والسؤال الذي يفرض نفسه بعد كل ما سبق، هل من حلول تضمن الحماية الحقيقية للتراث والآثار في البلاد؟
والجواب بكل اختصار نعم هناك حلول، ونقطة البدء فيها بأن تستعيد الدولة مهامها وواجباتها ومسؤولياتها كاملة، ومروراً بالانتهاء من السياسات التفريطية المعتمدة رسمياً، ولا تنتهي بإبعاد النمط الطاغي من التغول الاستثماري المحمي بهذه السياسات، نفوذاً واستغلالاً وفساداً!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1132