السياسة النقدية الكارثية وتهاوي مبرراتها وذرائعها!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

السياسة النقدية الكارثية وتهاوي مبرراتها وذرائعها!

ادّعى المصرف المركزي بأن التعديلات التي يجريها على سعر صرف الليرة مقابل الدولار بين الحين والآخر، مع غيرها من الآليات التنفيذية للسياسات النقدية المتبعة من قبله، هي بغاية إعادة التوازن لليرة، وتحقيق استقرار نسبي بسعر الصرف، وتقريب الفجوة مع سعر الصرف في السوق السوداء، وصولاً إلى سعر عادل ومناسب للاقتصاد الوطني، لكن الوقائع تقول إن أياً من هذه الغايات لم تتحقق!

فالتعديلات على سعر الصرف التي يجريها المصرف المركزي بحسب نشراته هي تعديلات تصاعدية تتبع متغيرات ارتفاع سعر الصرف في السوق السوداء، من عتبة سعرية إلى عتبة سعرية أعلى، بدلاً من أن تقودها، وهو ما سبق أن حذرنا منه مراراً وتكراراً عبر صفحات قاسيون!
فهل المشكلة بقدرة وإمكانات المصرف المركزي، أم بالسياسات النقدية بالتوازي مع بقية السياسات الليبرالية، أم بقدرة وإمكانات المتحكمين الفعليين بالاقتصاد (القلة من كبار أصحاب الأرباح والفاسدين)، المستفيدين من جملة هذه السياسات، والمستقوين بها؟!

السياسة النقدية بين المفترض والواقعي!

إن غايات السياسة النقدية، كما هو مفترض بإحدى مهامها، هي الدفاع عن قيمة الليرة مقابل بقية العملات الأجنبية، ومن مهام المصرف المركزي استناداً لذلك أن يقود هو دفة هذه القيمة، ارتفاعاً أو انخفاضاً مع تحديد نسب ذلك بعناية فائقة، بما يحقق غايات السياسات النقدية والمالية والاقتصادية عموماً، بما في ذلك أن يكون هو المتحكم عملياً بالسوق الموازي كي يتبعه في سعره، كحال كل الأنشطة الاقتصادية التي يجب أن تكون دفة التحكم بها بيد الدولة وتوافقاً مع سياساتها الاقتصادية العامة، والتي من المفترض أيضاً ان تكون نتائجها إيجابية وملموسة على مستوى الاقتصاد الوطني!
لكن ما يجري على مستوى السياسة النقدية، ودور المصرف المركزي بما يخص قيمة الليرة، هو العكس تماماً، فالسوق الموازي هو المتحكّم بقيمة الليرة وسعر صرفها ونسب ارتفاعها مقابل العملات الأجنبية، والمركزي هو الذي يتبعه بنسب الزيادة بين الحين والآخر، فالدفة يقودها السوق الموازي والمتحكمون به صعوداً وهبوطاً وبما يحقق مصلحتهم، كحال كل الأنشطة الاقتصادية في البلاد التي تقودها وتتحكم بها شريحة كبار أصحاب الأرباح، وهذا من الناحية العملية لا يتعارض مع جملة السياسات الاقتصادية المتبعة، التي لا يسجل لها أية إيجابية على مستوى الاقتصاد الوطني، بل على العكس، فالتدهور الاقتصادي يتزايد بدعم وإدارة هذه السياسات، وبالضد من المصلحة الوطنية عملياً!

رسمياً خسرت الليرة نسبة 61.351% من قيمتها خلال 4 أشهر!

الدليل على ما سبق أعلاه هو استمرار المركزي بإصدار نشرات تعديل لسعر صرف الليرة مقابل الدولار بين الحين والآخر، مع تعدد النشرات السعرية الرسمية لليرة مقابل بقية العملات، الأمر الذي يؤثر سلباً على عوامل الثقة بالسياسة النقدية وبالليرة وبالاقتصاد!
فخلال الأسبوع الماضي عدل المصرف المركزي أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل الليرة السورية في نشرة الجمارك والطيران، وفي نشرة الحوالات والصرافة.
فقد صدرت نشرة الجمارك والطيران للعملات الأجنبية مقابل الليرة السورية بتاريخ 9/5/2023، وقد تم تحديد سعر الدولار فيها بـ6500 ليرة، بعد أن كان بـ4000 ليرة، وبنسبة زيادة قدرها 62,5% دفعة واحدة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن رفع سعر الدولار الجمركي يطال عملياً كل مستلزمات الإنتاج المستوردة، بالإضافة لكل المستوردات بغاية وضعها بالاستهلاك المحلي المباشر، وهي مروحة واسعة من المواد والسلع، بما في ذلك الغذائية، ومنها رئيسية طبعاً!
وبنفس التاريخ صدرت نشرة الحوالات والصرافة التي حددت سعر الدولار فيها مقابل الليرة بـ7800 ليرة، بعد أن كان بـ7500 ليرة، وبنسبة زيادة قدرها 4%، إضافة إلى نسب الزيادة السابقة منذ بداية العام وحتى تاريخه، حيث بلغت نسبة خسارة الليرة أمام الدولار 61.351% رسمياً، بينما سجلت خسارة بنسبة أكبر من ذلك بكثير في السوق السوداء!

إن صدور النشرتين أعلاه لسعر الليرة مقابل الدولار بنفس اليوم، والتي تحمل تخفيضاً على قيمة الليرة عملياً، وفي ظل ما طرأ من انخفاض أكبر على سعر الليرة في السوق السوداء مؤخراً، ستكون نتائجه المتراكبة سلبية وكبيرة، وخاصة على المستوى المعيشي للغالبية المفقرة، التي تتراجع قدرتهم الشرائية مع كل تخفيض على سعر الليرة، رسمياً أو في السوق السوداء!

مزيد من التدهور والانعكاسات السلبية على كافة المستويات!

إن نسبة الزيادة في سعر الصرف الرسمي بموجب نشرات الصرافة، ووفقاً لخط سيرها التصاعدي، وبقفزات سعرية كبيرة في بعض الأحيان وصولاً إلى تآكل قيمة الليرة بنسبة 61.351% رسمياً منذ بداية العام وحتى الآن فقط، تعني بكل اختصار ما يلي:
انعدام الثقة بالسياسات النقدية المتبعة!
حساب التكاليف من قبل الفعاليات الاقتصادية، بما في ذلك الحكومية، بالاعتماد على نسب أعلى من نسب الزيادة الرسمية بسعر الصرف، مدفوعة سلفاً بنسب الزيادة في سعر السوق الموازي الأعلى، مع إضافة هوامش الأمان التحوّطية، مع إعادة هذا الحساب مع كل متغير!
زيادة أسعار السلع والمواد والخدمات في الأسواق بنسب مرتفعة وتصاعدية تجمع الزيادة الرسمية والزيادة في السوق الموازي مع هوامش التحوّط!
مزيداً من العجز والتضخم!
مزيداً من انخفاض القدرة الشرائية لليرة!
مزيداً من الإفقار والتجويع!
أما الانعكاسات السلبية لزيادة سعر صرف الدولار الجمركي فيمكن تلخيصها بالتالي:
زيادة تكاليف المستوردات، وخاصة مستلزمات الإنتاج!
زيادة في مبالغ التكليف الضريبي على الفعاليات الاقتصادية توافقاً مع نسبة الزيادة!
زيادة على أسعار السلع والمواد المستوردة والمنتجة محلياً بنسب أعلى من نسب الزيادة في سعر الدولار الجمركي، وأيضاً بدفع من سعر دولار السوق الموازي، مع هوامش التحوّط!
مزيداً من التراجع في الطلب على السلع والمواد في السوق المحلية بسبب ارتفاع أسعارها!
تراجع قدرة منافسة المنتجات الوطنية في أسواق التصدير بسبب ارتفاع تكاليفها!
خسارة جزء من عائدات التصدير الدولارية!
مزيداً من تراجع الإنتاج الحقيقي (زراعي- صناعي)!
مزيداً من توقف وخروج بعض الفعاليات الاقتصادية من السوق، وخاصة المنتجة!
مزيداً من ارتفاع نسب البطالة مع آفاتها!
فتح قنوات جديدة أمام حيتان الاستيراد لسد فجوة تراجع إنتاج بعض القطاعات المحلية، أي المزيد من الاستنزاف الدولاري!
مزيداً من التضخم والعجز، ومن تآكل قيمة الليرة!
مزيداً من الإفقار والتجويع!

تهاوي الذرائع!

ما سبق أعلاه من نتائج سلبية يُسقط كل ادعاءات البحث عن موارد دولارية للخزينة من بوابة رفع سعر الدولار الجمركي، وذلك لسبب بسيط هو غياب ما يقابل ذلك من آليات مفترضة لدعم الإنتاج والليرة، في ظل الاستمرار بسياسات تخفيض الدعم عموماً، وتقويض الإنتاج الحقيقي واستبداله بالمستوردات تباعاً!
فسياسات الجباية المعمول بها رسمياً لتمويل الخزينة العامة، بالليرة أو بالدولار، فيها الكثير من الاستسهال المقصود عبر أنماط فرض الضرائب والرسوم بمختلف مطارحها وتسمياتها، سواء كان ذلك من جيوب المواطنين مباشرة، أو على بعض القطاعات المستهدفة منها والتي يتم تحميلها للمواطنين بالمحصلة، مقابل الامتيازات والإعفاءات الضريبية الكبيرة الممنوحة للبعض المحظي من كبار أصحاب الأرباح بذريعة المشاريع الاستثمارية بموجب الكثير من القوانين، وهي غالباً مشاريع استهلاكية وغير منتجة، برأسمال قليل وأرباح كبيرة وسريعة!
وكذلك يسقط الادعاءات الرسمية حول مساعي لجم التضخم والحد منه، فمعدلات التضخم بازدياد، وما نلمسه يومياً هو انعكاس كارثي لذلك، ليس على مستوى انخفاض قيمة الليرة فقط، بل على مستوى مجمل الحركة الاقتصادية في البلاد!
أما أسوأ الأسوأ فهو أن تخفيض قيمة الليرة بهذا الشكل رسمياً، وعلى التوالي والتتابع، يعني أنه حتى الضئيل مما هو مخصص للاستثمار في الموازنة العامة للدولة من اعتمادات يتآكل تباعاً، ما يعني عدم تنفيذ الشق الاستثماري في الموازنة عملياً، وهو ما يساهم بالمزيد من تراجع الإنفاق العام، وبالتالي المزيد من التضخم أيضاً!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1122