الحكومة والمركزي والبدهيات الاقتصادية!
يبدو المصرف المركزي- بإجراءاته وقراراته- يتصدر منفرداً المشهد الاقتصادي في البلاد، وكأنه بعزلة عن السياسات الاقتصادية العامة المطبقة، وتبدو الحكومة من خلفه، وبما تمثله سياساتها من مصالح طبقية- وفقاً لهذا الشكل من تصدر المركزي للمشهد الاقتصادي- وكأنها بأحسن حال، ما يتيح لها تهربها من النتائج الكارثية لسياساتها الاقتصادية، مع استمرار تكريسها لهذه السياسات، مع تحللها من مسؤولياتها حيالها!
مقابل ذلك تظهر البدهيات الاقتصادية على ألسنة المواطنين، ببساطة تعبيرها، لتقوم بمهمة تعرية عمق هذه السياسات الحكومية الظالمة، وخاصة بنتائجها الكارثية على حياتهم ومعاشهم وخدماتهم!
إجراءات وقرارات مرتقبة!
فقد أعلن المصرف المركزي بتاريخ 24/1/2023 ما يلي: «يتابع مصرف سورية المركزي منذ فترة المتغيرات الاقتصادية في سورية والخارج، وبناءً على مراجعات مستمرة للسياسة النقدية، والدراسات التحليلية التي يجريها، إضافةً إلى التواصل المستمر مع مختلف الفعاليات الاقتصادية للاطلاع على مشكلاتها ومقترحاتها، سيتم اتخاذ مجموعة من القرارات يُعلن عنها تباعاً في الفترة القادمة، لضمان استقرار أسعار الصرف وواقعيتها، وتشجيع الإنتاج، وتسهيل توفر السلع في السوق المحلية، وانسيابية عمليات التصدير».
وقد أصدر المركزي بتاريخ 26/1/2023 قرارين، الأول يتضمن «تسهيل الإجراءات الخاصة بمنح الموافقة للصناعيين المصدرين، للاستفادة من كامل قطع التصدير لتمويل مستورداتهم». والثاني يتضمن «إجراء بعض التعديلات على القرار 1071 الخاص بتنظيم تعهدات التصدير».
وبحسب المركزي «كان أبرز هذه التعديلات أنه لم يعد يُسمح بتنظيم تعهد التصدير إلا ممن لديه ملاءة مالية، حيث يهدف المصرف المركزي للحد من فئة المصدرين غير الحقيقيين، الذين ينظمون تعهدات التصدير بأسمائهم، في حين يمارس عملية التصدير الفعلية واستلام القطع الأجنبي أشخاص آخرون، يتهربون من تطبيق الأنظمة والقوانين».
وبانتظار المزيد من القرارات اللاحقة على ما يبدو!
أسئلة بسيطة مشروعة
لن نغوص في تفنيد إعلان المركزي وقراراته أعلاه كثيراً، لكن سنقف عند بعض العبارات والمفردات الواردة بمتنها كتساؤلات فقط لا غير!
هل متابعة المركزي للمتغيرات الاقتصادية، داخلاً وخارجاً، «بدأت منذ فترة»، ما يعني أنه استفاق عليها متأخراً؟
وهل القرارات التي سيتخذها تباعاً «لضمان استقرار أسعار الصرف وواقعيتها» تعني أن قراراته السابقة لم تكن واقعية، وبالتالي ساهمت بعدم استقرار أسعار الصرف؟
وهل يعترف المركزي بأن هناك مُصدّرين غير حقيقيين وليس لديهم ملاءة مالية، وبالتالي يتحمل مسؤولية تهرب هؤلاء من تطبيق الأنظمة والقوانين؟
والأهم كيف ستترجم «الواقعية» بأسعار الصرف لاحقاً وفقاً للسياسات النقدية المعمول بها، من ضمن جملة السياسات الاقتصادية المتبعة؟
فالحديث المكثف على ألسنة المواطنين بعد إعلان المركزي أعلاه تمثل بعبارة «الله يجيرنا»!!
ما يعني انعدام الثقة بأية إيجابية ممكن حصادها لمصلحتهم وفقاً للنهج الاقتصادي المتبع، ليس من خلال إجراءات وقرارات المركزي فقط، بل من الممارسات والقرارات الحكومية، ومن كل السياسات المجحفة المتبعة من قبلها!
البدهيات المؤلمة على كل لسان
إن الواقع الكارثي لم يعد بحاجة إلى الكثير من الجهد والتعب في «المراجعات والدراسات التحليلية» وصولاً إلى بعض الاستنتاجات البدهية، بأبسط الأشكال تعبيراً عنها!
فالحديث مثلاً عن:
ضرورة زيادة الأجور بما يتوافق مع متغيرات الأسعار، وبما يضمن تأمين أبسط ضرورات المعيشة والخدمات للمواطنين، أصبح على كل لسان.
وعن أهمية الإنتاج (الزراعي والصناعي) وضرورة تخليصه من صعوباته ومعيقاته، وإعادة دعمه، وخاصة على مستوى تأمين مستلزماته، أصبح مكرراً لدرجة الملل!
وعن احتكار عمليات الاستيراد والتصدير من قبل البعض المحظي من كبار أصحاب الأرباح فقط لا غير، وعن تحكم هؤلاء بالأسواق وسيطرتهم عليها، بات من منسيات المواطنين!
وعن الفساد والإتاوات، وذرائع الحصار والعقوبات، التي تزيد من معدلات الاستغلال وترفع الأسعار بالنتيجة، وصل إلى مرحلة اليأس من التخلص منها!
وعن تراجع الخدمات، مع استمرار ارتفاع أسعارها وتكاليفها المرهقة برغم ترهلها، وصل إلى مرحلة القرف!
وعن سياسات تخفيض الدعم الظالمة سيراً نحو إنهائها، مع انعكاساتها السلبية الكبيرة بآلياتها وبنتائجها، حديث يومي يتكثف مع كل قضم جديد لهذا الدعم!
وعن التفاوت الطبقي، وصولاً إلى التوحش فيه، متمثلاً بجوع الغالبية من السوريين مقابل حال الترف والبذخ الذي تعيشه القلة الناهبة والفاسدة، أصبح يفقأ العيون!
وهناك الكثير من التفاصيل الحياتية المؤلمة التي يعيشها ويعبر عنها المواطنون ببساطة شديدة في أحاديثهم، وصولاً إلى عمق السياسات الحكومية الظالمة وممارساتها، تفنيداً وتعرية، تهكماً وفضحاً، وبأشكال كثيرة وعديدة ومختلفة!
المشكلة بجملة السياسات!
فبغض النظر عن الإجابات عن التساؤلات المشروعة أعلاه وغيرها الكثير، ومع عدم التقليل من أهمية السياسات النقدية، وضرورة تغييرها طبعاً، فإن التعويل على إجراءات وقرارات المركزي المنفردة لن تخرج الزير من البير، ولن تحل جملة الأزمات الاقتصادية في البلاد، التي نشأت مع تبني جملة السياسات الاقتصادية الليبرالية منذ عقود، وتراكمت خلالها، وتفاقمت خلال سني الحرب والأزمة، وصولاً إلى نتائجها الكارثية التي حصدها ويحصدها السوريون يومياً على كافة المستويات.
فعناوين (استقرار أسعار الصرف، والإنتاج وتشجيعه، وتوفر السلع في السوق المحلية، وعمليات التصدير و..) لا تقتصر على قرارات المركزي أو السياسات النقدية لوحدها، مهما كانت إيجابية وجيدة!
فجميع هذه العناوين، وغيرها الكثير، متشابكة ومرتبطة بجملة السياسات الاقتصادية المعمول بها (المالية والنقدية والأجرية والسعرية والضريبية والاستثمارية والزراعية والصناعية والخدمية والتعليمية والصحية و...)!
فالمشكلة كانت وما زالت تتمثل بجملة السياسات الليبرالية المطبقة، والتي تعتبر السياسات النقدية جزءاً منها، والتي لم ولن تخرج عنها من كل بد، وبما يضمن استمرار مصالح كبار أصحاب الأرباح فقط لا غير، على حساب الغالبية المفقرة، وعلى حساب الاقتصاد الوطني والمصلحة الوطنية!
فطالما استمرت هذه السياسات فلا حلول لأية مشكلة اقتصادية في البلاد، وجل ما في الأمر هو استمرار بعض عمليات الترقيع والتسويف هنا وهناك، والتي لم تعد ترقى حتى لتكون عمليات تجميل، بل هي بنتائجها تكريس لكل ما هو قبيح وظالم في هذه السياسات، وهو ما يجري!
فالقاصي والداني بات يعلم مثلاً أن استقرار سعر صرف الليرة وقوتها تأتي من زيادة الإنتاج الحقيقي (الزراعي والصناعي)، ومن القدرة الشرائية للمواطنين وزيادة معدلات الطلب، أي بزيادة الأجور، ومن العدالة الضريبية لترفد الخزينة بها من مصادرها الحقيقية، أي بإلغاء الاستثناءات والإعفاءات والامتيازات الضريبية التي يحظى بها كبار أصحاب الأرباح، ومن استعادة الدولة لدورها ومهامها المفترضة، والتي تم التضحية بها خلال العقود الماضية تباعاً، وإنهاء سياسات الخصخصة المعلنة والمبطنة، وغيرها الكثير من الإجراءات مما هو هام وضروري، وممكن بحال توفر الإرادة الجادة بتحسين الواقع الاقتصادي عموماً، أي بالتغيير الجذري والعميق والشامل للسياسات والبنية الاقتصادية الاجتماعية في البلاد!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1107