وأد «مشروع قانون الإفصاح عن الذمة المالية» رسمياً!
هل هناك جدّية في مكافحة ظاهرة الفساد رسمياً؟
وهل آليات الوقاية من الفساد، وصولاً إلى مكافحته، يجب أن تنطلق من معالجة النتائج، أم من إنهاء الأسباب؟
وهل الفساد سلوك فردي محصور بالوظيفة العامة، أم بنية ومنظومة تعمل بمظلة السياسات ومحمية منها؟
وهل سياسات الفساد والإفساد قادرة على إنتاج آليات لمكافحة ظاهرة الفساد؟
أسئلة كثيرة من الممكن، بل ويجب، أن تطرح عند الحديث عن ظاهرة الفساد بأسبابها ونتائجها، كي يتم التمكن من معالجتها ومكافحتها، طبعاً بحال توفر النية الجدية رسمياً في ذلك!
لكن الواضح أنه لا جدّية على المستوى الرسمي في مكافحة ظاهرة الفساد، على الرغم من تقزيمها لتبدو وكأنها سلوك فردي شاذ في بيئة ومنظومة غير شاذة، ترافقاً مع الحديث بأنها ظاهرة عامة تشمل كافة الدول، أي لسنا استثناء في ذلك، مع ما يعنيه ذلك من مساعي الاستسلام تجاهها، بل وتكريس تأبيدها، مع ما يعنيه ذلك من تأبيد لمصالح شريحة المستفيدين من هذه الظاهرة، مع غيرها من الظواهر الهدامة الأخرى، ومن جملة السياسات الطبقية المسخرة لخدمتها، على حساب بقية الشرائح الاجتماعية، والغالبية المفقرة خصوصاً، والاقتصاد الوطني، بل والمصلحة الوطنية عموماً!
لا جدية في مكافحة ظاهرة الفساد رسمياً
فبعد أخذ ورد بما يخص «مشروع قانون الإفصاح عن الذمة المالية» منذ عام 2019، برغم عدم التعويل عليه طبعاً، وعلى الرغم من تناول ظاهرة الفساد بمتنه بنتائجها فقط بمعزل عن مسبباتها، وعلى الرغم من النظر إليها على أنها سلوك فردي معزول ومحدود ومقتصر على بعض شاغلي الوظيفة العامة، فقد أطلقت وزيرة التنمية الإدارية رصاصة الرحمة على مشروع قانون «الإفصاح عن الذمة المالية» خلال حديثها عبر إذاعة المدينة إف إم بتاريخ 16/11/2022.
فبحسب الوزيرة، وتعقيباً حول مآل مشروع القانون، قالت: «هناك إجراء تنفيذي يتعلق بالذمة المالية خلال الأيام العشرة القادمة.. سيصدر عن الحكومة في اجتماعها القادم».
أي إن مشروع القانون، الذي طُنبت آذاننا به طيلة السنين الماضية، قد تم وأده رسمياً، أو تم تأجيله إلى أجل غير مسمى بأحسن الأحوال، وسيتم الاكتفاء عوضاً عنه الآن بـ«إجراء تنفيذي» حكومي فقط، أي بصيغة (قرار أو تعميم أو تعليمات)، يتمثل ربما بالاكتفاء بتقديم «إقرار مالي» من قبل شاغلي الوظيفة العامة، وقد يتم تحديثه بين الحين والآخر!
ولعل المآل النهائي لمشروع القانون (على علاته) بعد هذه السنين يشير إلى ما وصلت إليه قوى الفساد والنهب من قوة وتحكم وسيطرة ونفوذ، استقواءً بالسياسات الليبرالية التي تعمل لمصلحتهم طبعاً!
بين أخذ ورد!
يذكر أن مشروع قانون الإفصاح عن الذمة المالية كان قد تم طرحه من قبل وزارة التنمية الإدارية في عام 2019، مع الوعد بصدوره بنهاية ذلك العام في حينه!
ثم وفي عام 2020 تم الإعلان أن المشروع تتم دراسته من قبل لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في مجلس الشعب، لجواز النظر به دستورياً.
وفي شباط 2021، وخلال لقاء عبر الإخبارية السورية، أكد عضو مجلس الشعب الدكتور أحمد الكزبري، رئيس لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في مجلس الشعب، أن: «مشروع قانون الذمة المالية مخالف للدستور السوري ومنح اللجنة المختصة حصانة غير دستورية، مبيناً أنه لا يجوز إقرار قانون جزائي بأثر رجعي، وبالتالي مشروع قانون الذمة المالية يخالف الدستور في هذا المنحى».
ثم، وفي شباط 2022، أعلنت وزيرة التنمية الإدارية أن «قانون الذمة المالية سيقرّ قريباً وسيعلن عنه في الوقت المناسب»، بمعنى أن ملاحظات لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في مجلس الشعب تم تداركها حكومياً، وأعيد المشروع إلى عهدة مجلس الشعب.
لنأتِ إلى التصريح الأخير أعلاه على لسان وزيرة التنمية الإدارية، الذي يعلن وأد المشروع حالياً، واستبداله بإجراء تنفيذي حكومي فقط!
والاستنتاج الذي يمكن الوصول إليه بعد كل ذلك هو أن قوى الفساد والنهب والنفوذ لم تكن راضية حتى عن مشروع قانون يتناول ظاهرة الفساد ببعض نتائجها المقزّمة فقط، فكيف بحال الجدية في تناول هذه الظاهرة اعتباراً من أسبابها، أي من السياسات التي أفرزتها ووسعتها وعمقتها، وصولاً إلى محاسبة هذه القوى على ما تم نهبه، مع استعادة الأموال المنهوبة، والأهم تجفيف مصادر هذا النهب؟!
غير مفاجئ!
إن وأد مشروع القانون ليس مفاجئاً، فقد سبق أن أشرنا في عام 2019، من خلال مادة بعنوان «محاربة الفساد وشريحة المُعطلين» بتاريخ 6/8/2019، في معرض الحديث عن مشروع القانون في حينه، إلى أن قانون «الكسب غير المشروع» رقم /64/ لعام 1958 ما زال يعتبر نافذاً حتى الآن، أي إنه «ما زال ساريَ المفعول نظرياً لكنه مُعطل عمليا».
ومما قلناه بوقتها: «إن القادرين على تعطيل هذا القانون طيلة هذه الفترة بالرغم من نفاذه، قادرون على تعطيل أي مشروع أو نص يطالهم بالمحاسبة أو يحد من نفوذهم، أو يحول دون زيادة مكاسبهم، ناهيك عن إمكاناتهم وقدرتهم على صياغة ووضع القوانين والنصوص التي تزيد من نفوذهم ومن حصصهم وأرباحهم وفسادهم، وطبعاً الحديث هنا عن شريحة كبار الفاسدين وحيتان المال وكبار التجار وأصحاب الثروات، ومن انضم إليهم مؤخراً من تجار حرب وأزمة، والمستفيدين من جملة السياسات الليبرالية المتبعة، مع الأخذ بعين الاعتبار ارتباطات مصالح هؤلاء الإقليمية والدولية».
ولعل مسيرة مشروع القانون بين أخذ ورد على المستوى الرسمي خلال السنين الماضية توضح قدرة ووزن قوى النهب والفساد التعطيلية، وتؤكد الخلاصة السابقة!
مكافحة الفساد تبدأ بالسياسات وليس بالتعليمات!
إن جملة السياسات الليبرالية المطبقة منذ عقود مع نتائجها الكارثية، والتي زادت سنوات الحرب والأزمة من آثارها التدميرية على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، وصولاً إلى تكريس انعدام العدالة الاجتماعية وتعميق الفرز الطبقي بين أصحاب الأجور وأصحاب الأرباح، هي المسؤولة عن كل الموبقات والشرور التي يعاني منها السوريون والاقتصاد الوطني عموماً، بما في ذلك توسيع وتعميق ظاهرة الفساد كنتيجة ومفرز لهذه السياسات!
ولا جديد بالقول مثلاً بأن السياسة الأجرية (كجزء من السياسات الليبرالية المطبقة) تعتبر سياسة فساد وإفساد معاً، بالإضافة إلى كونها تعبيراً مكثفاً عن توحش هذه السياسات بنتائجها الملموسة على مستوى حياة ومعيشة وخدمات أصحاب الأجور، وخاصة ما يتعلق بالهوة الكبيرة بين الأجور والأسعار، أي بين الأجور وتكاليف المعيشة، مع تكريس العجز رسمياً من خلال سياسة تجميد الأجور، بالتوازي مع غيرها من السياسات الطبقية المتوحشة، مثل سياسات تخفيض الإنفاق العام، وآليات تخفيض الدعم المتبعة وصولاً إلى إنهائه كلياً!
فالسياسة الأجرية المتبعة منفردة هي دليل فاقع على عدم الجدية بمكافحة ظاهرة الفساد، بل هي نفسها دافع لتعزيزها وتوسيعها وتعميقها!
وبالتالي فإن الإجراء الحكومي المتمثل بالإقرار المالي للعاملين بأجر في الوظيفة العامة ليس كافياً للحد من ظاهرة الفساد، ولن يكون قادراً على مكافحة هذه الظاهرة، بل هو مجرد ذر للرماد في العيون، وتعمية رسمية مباشرة عن السياسات المتبعة وموبقاتها، بغاية عدم المساس بها واستمرارها، واستمرار الحفاظ على مصالح شريحة القلة من أصحاب الأرباح المستفيدين منها (نهباً وفساداً ونفوذاً)، على حساب الغالبية من أصحاب الأجور، والمصلحة الوطنية؟!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1097