المركزي يعترف.. التضخم بالأسعار تعجز السياسة النقدية عن ضبطه!
بالتوازي مع إعلان أرقام موازنة لعام 2023 والبيان المالي للحكومة، تكاثرت التصريحات واللقاءات الصحفية والضخ الإعلامي من قبل مصرف سورية المركزي، على غير العادة.
وبحسب مدير الدراسات والأبحاث الاقتصادية في مصرف سورية المركزي في تصريح لصحيفة تشرين بتاريخ 7/11/2022 هناك: «تراجع ملحوظ في معدلات التضخّم النقدي في سورية، بعد أن كانت الوتيرة تصاعدية». وأن: «السياسات النقدية الحكومية بدأت تأخذ مفاعيلها، لا سيما بعد عودة العديد من مقدرات الدولة إليها، إذ بدأنا نلمس تحسناً في المؤشرات الاقتصادية، وهذا التحسن يجب أن ينعكس على الواقع».
فما هي المؤشرات الاقتصادية التي تحسنت، وكيف ستنعكس على الواقع؟
تراجع في مؤشرات التضخم النقدي فقط
يضيف مدير الدراسات والأبحاث: «إذا ما قيمنا السياسة الحكومية النقدية من 2020 إلى 2022 وما مفاعيلها على التضخم العام السنوي والشهري، نرى أن مؤشرات التضخم في تحسن وهذا مثبت بالأرقام.. فمعدل التضخم العام في سنة 2020، بلغ 114 في المئة، وتراجع عام 2021 إلى 101 في المئة، واليوم وبعد الإجراءات الحكومية لضبط الائتمان والسيولة نرى أن معدل التضخم العام بلغ 59 في المئة، ومعدل التضخم السنوي حتى أيلول لهذا العام هو 55 في المئة وهو أقل من السنة الفائتة حيث بلغ 74 في المئة».
وبغض النظر عن مدى صوابية السياسات النقدية المتبعة وآلياتها، فإن حديث مدير الدراسات والأبحاث الاقتصادية في مصرف سورية المركزي المدعم بالنسب المئوية أعلاه هو عن مؤشرات معدلات التضخّم النقدي فقط.
فماذا عن بقية أنواع التضخم الأخرى التي يعاني منها الاقتصاد السوري؟
خلط ومتاهة!
بمقابل ذلك، وبحسب الصحيفة، يُعرّف مدير الدراسات والأبحاث الاقتصادية التضخم بأنه: «الارتفاع المستمر في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات التي تهم الشريحة الواسعة من المواطنين والتي لها تأثير في القوة الشرائية وفي النشاط الاقتصادي بشكل عام وكل متعلقاته، ليكون المحدد الأساس للتضخم هو مستوى أسعار السلع والخدمات».
التعريف أعلاه عن لسان مدير الدراسات والأبحاث هو للتضخم في مستويات الأسعار الذي لم يتم ذكر مؤشراته الرقمية ونسبه المئوية، وبالتالي لا ينطبق على النسب المئوية التي تشير إلى تراجع في معدلات التضخم النقدي التي أشار اليها!
فهل هذا الخلط بأنواع التضخم، وبالتالي بآثارها ونتائجها، يخفى على مدير الدراسات والأبحاث في المصرف المركزي؟
الاعتراف بالعجز
من المؤكد أن مدير الدراسات والأبحاث على علم ودراية بأنواع التضخم، لكنه اكتفى بالمؤشرات والنسب المتعلقة بالتضخم النقدي فقط، دون الخوض بأنواع التضخم الأخرى ومؤشراتها الرقمية التي يعاني منها الاقتصاد السوري.
فقد ميز مدير الدراسات والأبحاث بين أنواع التضخم، مبيناً أن: «التضخم الجامح هو الارتفاع الكبير بالأسعار والذي تعجز السياسة النقدية عن ضبطه، والتضخم المرغوب هو هدف السياسة النقدية بحيث تحقق استقراراً بأسعار التضخم الذي يتحرك ضمن أهداف السياسة النقدية، وهنا لا يحمل المعنى السلبي بل يكون حالة صحية ضمن المستوى الذي تستهدفه السياسة النقدية ويكون محفزاً للطلب والإنتاج والتصدير، أما النوع الثالث، فهو التضخم المكبوت وهنا تتدخل الحكومة لتحديد الأسعار ويبقى غير معلن».
إن الاعتراف بعجز السياسات النقدية أعلاه يعيد الكرة إلى الملعب الحكومي، وإلى بقية السياسات المتبعة والمطبقة، فالمؤشرات بما يتعلق بالتضخم النقدي تسقط على محك التضخم الجامح في الأسعار، مع التأكيد على ما جاء بحديث مدير الدراسات والأبحاث بأن: «المحدد الأساس للتضخم هو مستوى أسعار السلع والخدمات»، فهو المؤشر الأهم اقتصادياً، والذي لم يتحسن، بل يتراجع باطراد، وبالتالي ينعكس سلباً على الواقع بكل مفرزاته.
مفارقة وتناقض
أما المفارقة فهي قول مدير الدراسات بأن: «الحفاظ على التضخم عند مستويات مقبولة هو هدف أيّة سياسة نقدية، وفي العرف العالمي أرقام التضخم لدينا في سورية هي في حالة سيئة، لكنها مقبولة في العرف المحلي»!
فهل المقصود بالقبول بالعرف المحلي هو التضخم النقدي أم التضخم في الأسعار؟
وكيف يمكن اعتبار التضخم الجامح بالأسعار مقبولاً في العرف المحلي؟
وهذا القبول بالعرف المحلي، والحفاظ على التضخم عند مستويات مقبولة، لمصلحة من وعلى حساب من بالنتيجة؟
الحلول معروفة ولكن؟
بحسب مدير الدراسات فإن: «الحلول العلاجية لمشكلة التضخم تبدأ بزيادة الإنتاج المحلي وتحريك العجلة الاقتصادية، وهما الضامن الأساس لزيادة الرواتب والأجور وتحسين الواقع المعيشي للمواطن، فلا يمكن زيادة الرواتب والأجور من دون التوجه إلى زيادة الإنتاج لأن ذلك يأخذنا إلى التضخم الجامح، وزيادة الإنتاج تكون من خلال دعم الاستثمار والمشروعات الإنتاجية الصغيرة والمتوسطة، وهناك جهود حكومية لتأمين مستلزمات الإنتاج وخاصة المتعلقة منها بالطاقة».
أما الأولوية بحسب مدير الدراسات فهي في الدعم: «يجب أن تكون لمصلحة الإنتاج الزراعي لكون الاقتصاد السوري قائماً على الزراعة بالدرجة الأولى إلى جانب دعم الصناعات الأساسية لإحلال بدائل المستوردات، فكلما انخفضت تكلفة الاستيراد انخفض الاعتماد على القطع الأجنبي وزاد الاعتماد على الناتج المحلي الداخلي، وعليه يتم تصحيح ميزان المدفوعات، ويزداد الإنتاج وتدور العجلة الاقتصادية ونحدّ من التضخم».
السياسات والعرف المحلي التوحشي
لعله من الواضح أن الحلول أعلاه، والتي تتكرر على لسان الرسميين بشكل دائم، تتعارض مع جملة السياسات الليبرالية المطبقة عملياً، والتي تصب بنتائجها على شكل مزيد من الأرباح في جيوب القلة الناهبة والفاسدة، على حساب ومن جيوب الغالبية المفقرة، والاقتصاد الوطني عموماً!
فالإنتاج (الزراعي والصناعي) في أسوأ حالاته (عامّاً وخاصاً)، وهو في تراجع عاماً بعد آخر بسبب السياسات المتبعة، والدعم الحكومي، للقطاعات والمواطنين يتآكل ويتراجع وصولاً إلى إنهائه تماشياً مع السياسات المتبعة أيضاً، والحديث الرسمي عن إحلال بدائل المستوردات هو تسويقي وترويجي فقط، بل إن ما يجري على العكس من ذلك بنتيجة نفس السياسات، ولعل زيادة فواتير استيراد القمح والسكر سنوياً، والحمص والعدس مؤخراً، وغيرها الكثير من السلع والمواد، تعتبر مؤشراً على ذلك!
والمؤشر الأكثر إيلاماً من كل ذلك هي معدلات ومستويات الأسعار الكاوية والمستمرة بالارتفاع، والتي يدفع ضريبتها المواطنون على حساب معاشهم وخدماتهم.
والكارثة بعد كل ذلك أن السياسات تعمل على الحفاظ على التضخم، بكافة أنواعه، عند «مستويات مقبولة»، وتعتبر أن ذلك بات «عرفاً محلياً» مقبولاً أيضاً!
فهل من فجور وتوحش أكثر من ذلك؟!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1096