المال والصدقة والسياسة النقدية
عادل ابراهيم عادل ابراهيم

المال والصدقة والسياسة النقدية

أن يعلن المصرف المركزي عن إمكانية قيام الفعاليات الاقتصادية بتقديم طلبات لرفع سقف السحب اليومي من المصارف، ما هو إلا تكريس لمقولة «مالنا صار علينا صدقة»، بحسب بعض أصحاب الأرصدة المصرفية!

فبعد كل الأخذ والصد بين المصرف المركزي ووزارة المالية من طرف، والفعاليات الاقتصادية من طرف آخر، بشأن تقنين السحب اليومي من قبل أصحاب الأرصدة من المتعاملين مع المصارف، ووضع سقف سحب يومي لهؤلاء لا يتجاوز مليوني ليرة، لم تثمر إلا مزيداً من التعقيد والإجراءات الروتينية المركزية، التي تحد عملياً من إمكانية التصرف بأرصدة الحسابات المصرفية من قبل أصحابها، وعزوف أصحاب الفعاليات المالية والتجارية عن التعامل مع المصارف تباعاً، إلا للضرورة، وبحسب ما تمليه عليهم بعض الشروط الخاصة بهذا الصدد، بالإضافة إلى المواطنين المضطرين لهذا التعامل بحسب ما نصت عليه بعض التعليمات المصرفية، وخاصة ما يتعلق بعمليات البيع والشراء للعقارات والآليات!

إدارة السيولة!

فقد ورد على الصفحة الرسمية للمصرف المركزي بتاريخ 30/12/2021 بيان بخصوص طلبات رفع سقف السحب اليومي من المصارف، وقد تضمن التالي: «في إطار سياسة مصرف سورية المركزي بإدارة السيولة ضمن القطاع المصرفي، وبهدف إعطاء المرونة الكافية لمعالجة طلبات الفعاليات التي تتطلب طبيعة عملها سحوبات نقدية يومية تتجاوز السقوف المحددة، يبين مصرف سورية المركزي أنّه ابتداءً من تاريخ 03/01/2022 أصبح بإمكان هذه الفعاليات أن تقوم بتقديم طلباتها إلى المصرف الذي تتعامل معه مع بيان الحاجة الفعلية من السيولة النقدية اليومية، ومن ثم تقوم المصارف المعنية بدراسة هذه الطلبات في ضوء المبررات المقدمة والسيولة المتوفرة لديها، وترفع هذه الطلبات إلى المصرف المركزي ليصار إلى معالجتها أصولاً».
فهل هذه هي الطريقة المثلى لإدارة السيولة ضمن القطاع المصرفي، وفق المصرف المركزي؟
وهل فعلاً لا توجد طرق أخرى أكثر فاعلية وجدوى من هذه الإجراءات التقييدية لحركة رؤوس الأموال والأرصدة المصرفية؟

آراء وانتقادات

بحسب البعض، ممن يعتبرون من الفعاليات الاقتصادية، أو من المواطنين العاديين، فإن الحديث عن «إعطاء المرونة الكافية لمعالجة طلبات الفعاليات التي تتطلب طبيعة عملها سحوبات نقدية يومية تتجاوز السقوف المحددة» لا يستقيم مع الآلية المعقدة للبت بهذه الطلبات مركزياً من قبل المصرف المركزي بالنتيجة!
فمثلاً إن العمليات التجارية اليومية، والتي قد تتطلب فعلاً مرونة كافية بعمليات السحب اليومي من أجل تنفيذها، لا يمكن لها أن تنتظر، مع وقف التنفيذ، لحين الانتهاء من روتين تقديم الطلبات والحصول على الموافقات كما ورد أعلاه!
كذلك ليس صحيحاً أن كل العمليات التجارية يمكن لها أن تتم عبر تحريك الحسابات بين تلك الفعاليات لدى المصارف، عبر آليات الدفع الإلكتروني، مهما جرى التشجيع عليها، بل على العكس، فمع فرض سقف سحب يومي جرى الحد من هذه العمليات ولم يزدها!
أما الحديث عن ربط موافقة المصرف المركزي، وبعد تقديم المبررات من قبل أصحاب العلاقة كل لمصرفه الذي يتعامل معه، بالسيولة المتوفرة لدى هذه المصارف فتلك مصيبة أخرى!
فمن يتقدم بطلب من أصحاب الحسابات المصرفية، لا يطلبونها صدقة أو منحة أو سلفة أو قرضاً، كي يتم ربط الموافقة النهائية على طلبهم بتوفر السيولة من عدمها، خاصة والحديث هنا عن زيادة مبلغ السحب اليومي فقط لا غير، وليس عن سحب كامل الرصيد! أم أن المطلوب مزيد من التشكيك والريبة بالعمل المصرفي، لدرجة انعدام الثقة فيه؟!

مبررات لم تعد كافية

إن المبررات النقدية والمالية، والاقتصادية العامة، التي يمكن أن تقال بما يخص تقييد حركة رؤوس الأموال، وتجميد أكبر قدر منها داخل المصارف، والتشجيع على تكريس أنماط وآليات الدفع الإلكتروني، من أجل ضبط سعر صرف الليرة، أو الحد من المضاربة عليها، قد تبدو ضرورية ومقنعة لفترة زمنية محددة، وهي إجراءات احترازية مؤقتة تقوم بها عادة المصارف المركزية الحكومية، ولأسباب مختلفة، أما استمرارها لآجال زمنية مفتوحة فهو غير ذلك!
فما جرى عملياً هو مزيد من الانكفاء بالتعامل مع المصارف، إلا للضرورة كما أسلفنا، ما يعني أن كتلة هامة من السيولة والعمليات التجارية وحركة رؤوس الأموال عموماً، قد أصبحت خارج المصارف، وآليات الضبط والرقابة المصرفية عليها، أكثر مما سبق!
فالنتيجة مع مرور الزمن أصبحت تسير باتجاه تكريس الضرر أكثر من المنفعة، سواء على المستوى الفردي بالنسبة لأصحاب الحسابات المصرفية ومصالحهم، أو على المستوى الاقتصادي العام، وهو الأخطر!
فاستمرار إجراءات المصرف المركزي أصبحت نابذة للإيداعات المصرفية وليست جاذبة لها، خاصة وان بنية الدفع الإلكتروني، التي يتم الترويج لها على أنها بديل ووعاء مناسب للعمليات المصرفية والتجارية والمالية، لم تستكمل بعد!
أما أين توجهت تلك السيولة، أو أين تتمركز رؤوس الأموال تلك، وبأية أنشطة تعمل، فهي أسئلة هامة ربما باتت بعهدة المصرف المركزي، الذي أبدع آلية النبذ لهذه السيولة من المصارف، ولم يتمكن بعد من إيجاد بدائل الجذب لإعادة استقطابها وحسن استثمارها! وكذلك بعهدة القائمين على السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية والاستثمارية، والمستفيدين منها عملياً، وهو الأهم!

ضباع المال والفساد

بات من المثبت أن جملة السياسات الليبرالية المتبعة تصب باتجاه الحفاظ على مصالح كبار الحيتان من أصحاب الثروة والفاسدين، وتدفع باتجاه تعزيز مصالح هؤلاء وزيادة أرباحهم، والسياسات المالية والنقدية المتبعة جزء من كل في ذلك.
فهؤلاء الحيتان عملياً هم المستفيدون من انكفاء التعامل مع المصارف، فعبر أدواتهم الخاصة والعديدة يتمكنون من الاستحواذ على ما يمكن من السيولة خارج المصارف، لاستثمارها في أعمالهم الربحية، المشروعة وغير المشروعة، والعابرة للحدود، بما في ذلك عمليات المضاربة بالعقارات أو بالليرة والعملة الصعبة، وحتى بعمليات التهريب والتجارة بالمخدرات، بل وبكل التجارات غير المشروعة، داخلاً وخارجاً، التي تؤمن لهم عائداً ربحيّاً كبيراً، ولو كان ذلك على حساب مصالح عموم المواطنين، والاقتصاد الوطني، والمصلحة الوطنية.
ولا جديد في تأكيدنا بعد كل ذلك أنه لا خلاص أو حل، لجملة الأزمات المزمنة، والمشكلات المتراكبة التي يعاني منها المواطن والاقتصاد الوطني، إلا بالخلاص من جملة السياسات الليبرالية المتبعة، ومن كبار الحيتان المستفيدين منها، الذين تحولوا إلى ضباع متوحشة، تنهش بالمواطن ومصالحه كما تنهش بالمصلحة الوطنية!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1051
آخر تعديل على الأحد, 02 كانون2/يناير 2022 23:15