خطة «الاستثمار» لما بعد الدمار: «الجذب» قديمهم وجديدهم..!
كانت هيئة الاستثمار السورية إحدى المشاركين الممثلين للجهات التنفيذية في مؤتمر إعادة البناء والتنمية الذي عقد في كلية الاقتصاد- جامعة دمشق بتاريخ 27-28 آذار 2014، قدمت الهيئة محاضرة عرضت فيها «الخطّة الاستراتيجية لهيئة الاستثمار السورية في مرحلة إعادة الإعمار 2014»..
لا أرقام ولا جديد..
لا يرد في المحاضرة المذكورة والموضوعة في سياق قراءة وقائع الأزمة والانطلاق لشرح الخطة الاستراتيجية للهيئة، أية أرقام لتوصيف واقع الاستثمار في سورية خلال الأزمة، فلا حجم الاستثمارات الهاربة من سورية، أو المتوقفة عن العمل، أو المستمرة، ولا معلومات عن توظيف إنفاق الحكومة الاستثماري، أو أية مقارنة بين معطيات الاستثمار الحالية مع الواقع السابق لتوضيح حجم الفجوة، وكم العمل المطلوب، ذلك كله لم يرد في أرقام الجهة المسؤولة عن الاستثمار في سورية، التي تحصر مسؤوليتها في تأمين كل ماهو لازم «لرعاية وتشجيع الاستثمار» وفق تعبير المحاضرة!.
الخطة القديمة الجديدة
استراتيجية هيئة الاستثمار في عام 2014، هي تعبير مكثف عن استمرارية السياسة الليبرالية في سورية لدى المفاصل الرئيسية لصنع القرار بتأثير قوة العطالة، فالهيئة التي يفترض أن تضع خطة استثمارية لإعادة الإعمار، أعادت ترتيب وصف التعبيرات العامة «المعلّقة بالهواء» التي لا ترتبط بأولويات الواقع الملموس والتي تركّز على «خلق البيئة الاستثمارية المناسبة» و«تشجيع تدفق رؤوس الأموال الأجنبية والمغتربة والمحليّة» و«خلق اليد العاملة المناسبة لتشجيع الاستثمار الخارجي».. لكن ألم يكن هذا هو حديث هيئة الاستثمار قبل الأزمة السورية كجزء من برامج الخطة الخمسية العاشرة ، ألم يكن التوجّه في السنوات العشر التي سبقت الأزمة الوطنية _وخلقت مسبباتها واقعياً_ إلى الاستثمار الخارجي وجذب رؤوس أموال المغتربين وإعفاؤها من الضرائب، وتسهيل نقل الأرباح خارج سورية، والتركيز على القطّاعات الأكثر ربحية في المصارف ومطاعم والمنتجعات والفنادق...؟! فما الجديد الذي تطرحه اليوم الهيئة ولم نجرّب نتائجه ونهاياته كمواطنين؟
التذكير ينفع!
للتذكير بما أنتجته سابقاً الخطة الاستراتيجية المكررة لحصر دور الدولة بجذب الاستثمارات، واعتبار الاستثمار الخاص الأجنبي والمحلي محركا رئيسيا للنمو نذكر بالخطوط العريضة التالية:
• حزمة من التشريعات «لحماية الاستثمارات وزيادة حرية حركتها» تعطي في جوهرها الحق للمسثتمر الأجنبي أن يمتلك الأرض والعقار والموجودات الثابتة كافة، وأن يحول سنوياً الأرباح والفوائد التي يحققها، بعد خصم الضريبة فقط بعملة قابلة للتحويل، وإلغاء محاكم الأمن الاقتصادي والمرسومين «24» و «6» المقيدين لإخراج وإدخال النقد الأجنبي والمعادن الثمينة، ما نتج عنه هروب أكثر من 900 مليار ل.س وفق تقديرات اقتصاديين في نيسان 2012 .
• مساهمة رأس المال الخاص في التكوين الرأسمالي في سورية ليس هاماً على الرغم من عقود من التحفيز والتشجيع والجذب، فحجم الآلات والمعدات التي أضافتها الاستثمارات خلال تسع سنوات في قطاعات رئيسية أي الصناعة والزراعة والنقل بلغت النسب المستوى التالي: 2%-13% من إجمالي التكوين الرأسمالي بين عامي 2001-2009، بوسطي 5,5%، وكان أقصاها في عام 2007: 37,8 مليار ل.س فقط، بينما تبلغ رؤوس الأموال المتراكمة في القطاع العام الصناعي في عام 2008: 698 مليار ل.س.
• على صعيد العمال فإن الاستثمارات الخاصة المشملة والمرخصة في سورية لم تشغل إلا نسبة 2,8% من القوى العاملة السورية بمعدل 141 ألف فرصة عمل منفذة فعلياً، ومقابل هذه النسبة القليلة أدى جذب الاستثمار في سورية إلى تشريع قانون العمل رقم «17» سيء الصيت الذي ينظم علاقة صاحب العمل مع العاملين في القطّاع الخاص وفق مقولة «العقد شريعة المتعاقدين»، أي بمعنى آخر يبنى هذا القانون على حقيقة أنه إذا قبل العامل بشروط الاستغلال التي يفرضها صاحب العمل «فما باليد حيلة»، وهو ما أنتج تسريح مئات آلاف العمال في المنشآت والاستثمارات الهاربة خلال الأزمة دون أي تعويض!
إشارات متناقضة!
في المحاضرة ذاتها تعرّف الهيئة جوهر أهدافها بـ«تنفيذ السياسات الوطنية للاستثمار»، ومن هنا ترى أن فرص الاستفادة من «ظهور شركاء جدد من الدول الصديقة لسورية كدول البريكس والدول الصاعدة في أمريكا الجنوبية ومجموعة الآسيان والاتحاد الأوراسي ومجموعة شنغهاي»، ولاشك حتماً في صحّة وجود تحالفات اقتصادية مع تلك التشكيلات الاقتصادية الصاعدة، لكن المشكلة هنا هي في إعطاء إشارات للتوجه الجديد مقابل عدم القطع مع القديم، حيث يظهر ذلك في محاضرة الهيئة بغياب أي تقييم للتوجهات الاقتصادية والأجندات السياسية الاستراتيجية التي كانت خلف الاستثمارات الخارجية السابقة، وأيضاً فإن هذه الرؤية لم تغلق الباب أمام تلك الاتفاقيات والشراكات مع الغرب، ولم تشر إلى عرقلة «التوجه نحو الشرق» اقتصادياً، على العكس يرد في أحد البنود أن إحدى السلبيات الموجودة اليوم هي «توقف العديد من مذكّرات التفاهم والعلاقات مع الجهات الخارجية نتيجة الأوضاع الحالية»، إذاً في حال تغيّر «الأوضاع الحالية» يجب إعادة تفعيل تلك التفاهمات والعلاقات بعيداً عن الأثر الذي أدى إليه الإيقاف السياسي لمثل هذه الاتفاقيات!
المرافق الرئيسية «فرصة استثمارية»
أيضاً من الفرص التي ترى الهيئة ضرورة استغلالها: «توفر فرص كبيرة للاستثمار في ظل الأزمة من بنى تحتية، طرق، مطارات، طاقة بديلة، مدن تنموية..» و«حاجة السوق المتزايدة للسلع والخدمات على أثر الأزمة»، باختصار وفق هذه الرؤية لا تضع الهيئة تمييزاً لشروط وآليات استثمار المرافق العامة والبنى التحتية السيادية، لتعتبر أنها نقاط جذب اسثتمارية، وليس مهمة كبرى على عاتق جهاز الدولة، ومن الضروري البحث عن مواردها المستقلة!.
الخطوة الوحيدة.. ليست للأمام!
خطا المسؤولون عن الاستثمار في سورية، خطوة وحيدة خلال الأزمة، وللأسف لا تبدو معالم هذه الخطوة للأمام، والحديث هنا يدور عما ناقشناه سابقاً في عدد قاسيون رقم «641» بعنوان: «مسودة مشروع قانون الاستثمار: مغالاة جديدة في الجذب و(التدليل)»، حيث تناولنا تفاصيل مشروع قانون الاستثمار الجديد المقدمة من هيئة الاستثمار، والقائمة على أساس توسيع إعفاء المستثمرين من الضرائب والمبالغ المترتبة عليهم والتي يفترض أن تقدم للدولة، كوسيلة جذب رئيسية لتنمية مناطق ضعيفة التنمية، بنسب تصل 100% في كثير من سنوات الاستثمار، وتتدرج إلى 50% و25% وصولاً إلى 15%..
سياسة الإعفاءات لتحفيز الاستثمار ليست جديدة ويذكر أن توسيع الإعفاءات وقوانين تشجيع الاسثتمار ازدادت بشكل كبير بعد عام 2000 (مرسوم رقم 7 لعام 2000، مرسوم رقم 8 لعام 2007 وغيرها حوالي 1200 قانون ومرسوم إداري في إطار تهيئة البيئة التشريعية لتحفيز المستثمرين بين عامي 2000-2005)جميعها لم تغير من نسب تنفيذ المشاريع الرئيسية المستثمرة في القطاعات الرئيسية حيث نسب التنفيذ في المشاريع في قطّاع الزراعة بين 1991-2009 _أي خلال عشرين سنة_ 68.4%، وفي الصناعة النسبة ذاتها تقريباً حيث بلغت 67.6%، وبقيت في حدود 70,1% بعد عقد الإعفاءات والتشجيع!!
فهنيئاً لنا في مرحلة ما بعد الحرب بخطط استثمارية تعيد إنتاج شروط ومسببات ما قبلها!!