مشاريع النهب والفساد وتشويه هوية دمشق
صدر المرسوم رقم /٢٣٧/ تاريخ ١٤/٩/٢٠٢١ المتضمن إحداث منطقة تنظيمية للمنطقتين العقاريتين (قابون– حرستا) في مدخل دمشق الشمالي.
أول ما يتبادر للذهن حول مشروع محافظة دمشق الجديد أعلاه هو مشروع المرسوم ٦٦ في منطقة خلف الرازي «ماروتا سيتي»، وما آل إليه على مستوى حقوق سكان المنطقة وأهاليها، وكيف تغولت استثمارات حيتان المال والفساد فيها على حساب حقوق أصحاب الملكيات الصغيرة الذين اضطروا لبيع أسهمهم تباعاً لتجار العقارات وسماسرتها، وكذلك أصحاب الحق بالسكن البديل بسبب تأخر التنفيذ.
أما الملفت فهو تكرار مقولة «دمشق ليست مدينة للصناعة والزراعة بل مدينة خدمات وأموال واستثمارات» حتى باتت «التميمة» التي تغطي موبقات تبييض أموال كبار الحيتان والناهبين وأمراء الحرب وتجارها من خلال مثل هذه المشاريع وغيرها.
التشويه والنهج التدميري للصناعة
لقد نُقل عن أحد أعضاء المكتب التنفيذي في محافظة دمشق عبر صحيفة الوطن بتاريخ ١٥/٩/٢٠٢١ أن: المرسوم صدر بناءً على كتب محافظة دمشق، وقال: المرسوم ٦٦ كان الأول من نوعه بتحقيق أكبر عدالة لأكبر شريحة من المواطنين، وأوسع مجال اقتصادي واستثماري، كما أنه يعطي المحافظة الكثير من الأريحية بالعمل، وبيّن أن المخطط التنظيمي الجديد أخذ بعين الاعتبار هوية دمشق، وأنها ليست مدينة صناعية ولا زراعية بل هي مدينة خدمات ومدينة أموال واستثمار.
لا ندري عن أية عدالة يتحدث عضو المكتب التنفيذي هنا على ضوء ما آل إليه حال أصحاب الحقوق والملكيات في المنطقة، لكن المؤكد أن المشروع كان وما زال مجالاً واسعاً للاستثمار والتربح على حساب هؤلاء.
بالمقابل، تجدر الإشارة إلى أنها ليست المرة الأولى التي يتم التحدث فيها من قبل عضو المكتب التنفيذي نفسه عن هوية دمشق بأنها ليست مدينة للصناعة والزراعة، بل مدينة للمال والخدمات والاستثمار، ومن أجاز له تحديدها بهذا الشكل المشوه؟
فقد سبق أن كررها مع غيره عدة مرات خلال السنوات السابقة، كتكريس للنهج الليبرالي الواضح المعادي لكل ما هو مُنتِج، ولوأد عراقة هوية دمشق بزراعتها وصناعتها وحرفها ومهارة صنّاعها عبر التاريخ، كحال غيرها من المدن السورية، وما فيها من صناعات وزراعات وحرف، عبر تبني وتطبيق الليبرالية الاقتصادية التي وصلت لمرحلة التوحش والوقاحة، على حساب المواطنين والمصلحة الوطنية.
لكن لعل الجديد في مضمون التكرار الأخير لهذه العبارة وكأنه يضمر نوعاً من «الشماتة» بأن هذا النهج التدميري للصناعة الدمشقية يجري على قدم وساق، وخاصة بعد إغلاق ملف منطقة القابون الصناعية الذي صدر مرسوم تنظيمها مع حرستا كمنطقة زراعية واسعة في محيط مدينة دمشق من الشمال، بحسب المرسوم أعلاه، بعد كل الشد والجذب مع صناعيي القابون خلال الفترة الماضية.
الاستثمار على أنقاض القابون الصناعية
للتذكير، فإن منطقة القابون الصناعية تعتبر من أقدم المناطق الصناعية المنظمة في دمشق، منذ أربعينات القرن الماضي، وكانت تضم بالإضافة إلى الشركة الخماسية للنسيج، وشركة المغازل والمناسج، والشركة الحديثة للكونسروة والصناعات الزراعية، وشركة الإنشاءات المعدنية والصناعات الميكانيكية، والشركة الأهلية للمنتجات المطاطية، والمعهد التقاني للصناعات الكيماوية، وشركة سيرونيكس، وكلها منشآت ومعامل للدولة (قطاع عام) وكانت هناك مئات المعامل الخاصة، ومئات غيرها من الورش الصناعية والحرفية الصغيرة، والتي بمجموعها كانت تؤمن عشرات آلاف فرص العمل المباشرة، وبالتشابك مع غيرها من الصناعات والورش والخدمات في دمشق وغيرها من المدن كانت تؤمن معيشة مئات آلاف الأسر.
ولعل عضو المكتب التنفيذي مع أشباهه من الليبراليين المعادين للصناعة والزراعة والإنتاج كانوا جداً مسرورين بالدمار الجزئي والكلي الذي أصاب المنطقة وما فيها من معامل ومنشآت صناعية وأشجار خلال سنوات الحرب وبسببها، كي تمر مشاريعهم الاستثمارية على أنقاضها، وهو ما جرى ويجري على قدم وساق.
مزورو التاريخ
تُرى من يمكن أن يفصل صناعة البروكار والدامسكو والأغباني عن هوية دمشق، باستثناء البعض المنتفع والفاسد وأشباههم من الليبراليين، وكيف نعزل صناعة الزجاج المعشق والقاشاني والموزاييك عن دمشق وحرفييها وصناعها، إلا من خلال مزوري التاريخ ومشوهيه.
ولا شك أن هؤلاء تلقوا الخبر المتناقل مؤخراً حول إعلان شيخ كار صناعة الزجاج اليدوي في دمشق عن إغلاق ورشته، كآخر حرفي للزجاج اليدوي في دمشق، بعد أن استنفذ إمكانات البقاء بسبب ارتفاع أسعار المحروقات، مع بقية مستلزمات الإنتاج، بالكثير من الغبطة والسرور.
ولعل هؤلاء كانوا أكثر سروراً بإغلاق مكتبة «نوبل» في دمشق منذ عدة أيام، كما غيرها من المكتبات العريقة التي أغلقت حتى الآن، لتحل مكانها محلات الفلافل والشاورما والأراكيل والكافيهات، وبائعو الأحذية، ولم لا وقد وصل الحال بنتيجة التدهور المعيشي بسبب السياسات الليبرالية المتوحشة على أيديهم إلى أن يبيع أحدنا كتبه ليشتري رغيف الخبز المغمس بالذل.
دمشق لن تكون معادية لنفسها ولأبنائها
مدينة الخدمات والمال، بما تمثله من مصالح لحيتان الفساد والاستبداد، ليست معادية للإنتاج فقط، بل للفكر أيضاً، باعتباره مصدر خطر يهدد مصالحهم، وعسى أن تنقلب دمشق بالنتيجة لتصبح معادية لذاتها ولأبنائها.
فدمشق التي يروج لها كمدينة للخدمات والاستثمار، بمعزل عن تاريخها الصناعي والحرفي والزراعي والتجاري الشريف، وبالضد من مصالح أبنائها وساكنيها ووافديها، هي مدينة مُبيضي الأموال المنهوبة من البلطجة والتشبيح، ومدينة أمراء الحرب وتجارها وسماسرتها، من محدثي الثروة والنعمة الهابطة عليهم نهباً واستغلالاً وجوراً واستبداداً، كطفرة ارتجاعية، لكنها لا شك ستكون محتومة النهاية، فلا يمكن لها أو لهم البقاء والاستمرار.
هكذا علمنا التاريخ، ولكنهم لم ولن يتعلموا أن العملية التاريخية لها قانونها الخاص الذي سيتجاوزهم ويلفظهم، كما لفظ غيرهم من المتسلطين والفاسدين والمستبدين تاريخياً، على أيدي الوطنيين والشرفاء من السوريين، فالآمال معقودة على هؤلاء، وعلى الحل السياسي عبر التنفيذ الكامل للقرار ٢٢٥٤، كمدخل لاستعادة الشعب السوري لقراره ومصيره، وهو ما سيكون، كي تبقى سورية، ولتستمر دمشق وتبقى، بساكنيها ومحبيها ووافديها المنصهرين بها عشقاً، مدينة الهوية الحضارية التاريخية العريقة، فناً وعلماً وزراعةً وصناعةً وحرفاً وتجارةً نظيفة، وليست تلك الهوية المزيفة والمزورة التي يسعون لتكريسها لغايات نهبوية ومشبوهة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1037