المساومة على الأراضي البور أسهل!
تداولت بعض وسائل الإعلام، خلال الأسبوع الماضي، خبر قطع وقلع مئات أشجار الزيتون في بعض قرى محافظة طرطوس (تيشور- المصطبة)، ومما رشح عن الموضوع رسمياً، أن أعداد الأشجار المقطوعة والمقلوعة تجاوز 600 شجرة، وذلك لقاء مبالغ مالية مقابل كل شجرة، شريطة اقتلاعها من جذورها، وليس الاكتفاء بقطعها.
وبحسب ما تم تداوله إعلامياً وعن ألسنة الأهالي: أن العملية كانت قد بدأت منذ أكثر من شهر، ويقف خلفها بعض التجار والسماسرة «المجهولين»، حيث تراوح السعر المعروض مقابل كل شجرة بين 75-150 ألف ليرة، حسب وضعها، والحديث هنا عن مبالغ بعشرات الملايين بالمجمل، وذلك بحال الاكتفاء بالرقم الرسمي أعلاه عن أعداد الأشجار المقتلعة.
رسمياً
على المستوى الرسمي فقد تم تداول صورة عن كتاب صادر عن مديرية زراعة طرطوس موجه إلى محافظ طرطوس بتاريخ 22/9/2021، والذي تضمن أنه بحسب البيانات الواردة من الوحدة الإرشادية في قرية تيشور التابعة لمنطقة طرطوس تبين وجود قطع وقلع 359 شجرة زيتون مساحتها 35,6 دونم يملكها 41 مزارع مختلف، وهذه الأشجار المقطوعة هي أشجار قديمة كبيرة معمرة غير منتجة، ومنتشرة في البساتين التي تم القطع منها، وفي قرية المصطبة التي تتبع منطقة دريكيش تم قلع وقطع 242 شجرة زيتون دون ترخيص يملكها 25 مزارعاً، وجميع الأشجار المقطوعة والمقلوعة هي أشجار قديمة معمرة مصابة بالسل والحفارات ومرض عين الطاووس، وغير منتجة ضمن البساتين، ومنتشرة على مساحة 300 دونم تقريباً، كما تم قطع 70 شجرة زيتون استناداً إلى رخصة قطع أصولاً و 44 شجرة دون ترخيص، ونظم بها ضبط أصولاً.
وبحسب صحيفة الوطن، نقلاً عن مدير زراعة طرطوس، أنه «تم تنظيم ضبوط بحق بعض الذين اقتلعوا أشجار الزيتون من أراضيهم من دون ترخيص».
الحلقة الأضعف
بغض النظر عن الاستفاقة المتأخرة لمديرية زراعة طرطوس، والتي أتت بعد انتشار الخبر من خلال أحاديث المواطنين وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإن تبريرات مديرية الزراعة بأن الأشجار المقطوعة هي أشجار «قديمة كبيرة معمرة غير منتجة»، أو أنها «مصابة بالسل والحفارات ومرض عين الطاووس»، تتناقض مع الحديث عن اقتلاع الأشجار من الجذور، كشرط موضوع من قبل السماسرة والتجار لشرائها من المزارعين.
ولعل الغاية من ذلك الشرط هي إعادة زراعة هذه الأشجار المقتلعة في أمكنة أخرى (مزارع خاصة)، مع ضمان عدم إمكانية إعادة نموها مجدداً في مكانها الأصلي، فمن المعروف أن «قرمة» الزيتون تعيد إنتاج نفسها لتنمو وتثمر مجدداً، ولعل هذه غاية أخرى، بأن تتحول الأرض الزراعية إلى أرض جرداء، حكماً.
أما المدهش، فهو جهالة هؤلاء التجار، والمثير للاستغراب أكثر هو عدم لحظ السيارات الشاحنة التي قامت بنقل مئات الأشجار خلال مدة شهر على أقل تقدير على الطرقات، وعدم معرفة جهة توجهها ومستقرها النهائي، أي تغييب مسؤولية هؤلاء التجار والسماسرة بالنتيجة، في الوقت الذي جرى فيه الحديث عن تنظيم الضبوط بحق المزارعين المخالفين حسب الأصول.
فالمُزارع الذي اضطر لاقتلاع وبيع أشجاره، بسبب الفقر وضيق ذات اليد بالدرجة الأولى، جرى تغريمه لقاء كل شجرة، ولقاء كل دونم أرض، وفقاً للأصول القانونية بحسب مديرية الزراعة، ولم لا فهو الحلقة الأضعف في العملية، فيما غاب التجار والسماسرة عن المسؤولية والمسائلة!
تراكم الخسارات والكوارث
يشار الى أن عمليات قطع واقتلاع الأشجار ليست ظاهرة مستجدة، فقد سبق أن تم الحديث عن اقتلاع الأشجار المثمرة في بعض المناطق (الساحلية خصوصاً)، وخاصة بعد الخسارات المتراكمة التي يتكبدها المزارعون في مواسمهم وخاصة (الحمضيات- الزيتون)، وذلك لاستبدال زراعاتهم الخاسرة هذه بأخرى ذات ريعية أفضل بالنسبة إليهم، أو هجرة الأرض والزراعة بشكل نهائي.
فتكاليف مستلزمات الزراعة والإنتاج الزراعي (النباتي والحيواني) المرتفعة عاماً بعد آخر أصبحت تثقل كاهل المزارعين، خاصة مع تراكم الخسارات السنوية، ووقوعهم فريسة سهلة بأيدي التجار والسماسرة، عبر حلقة مستلزمات الإنتاج وحلقة التسويق، المتحكم بها من قبلهم، والتي تزايدت مستويات الاستغلال فيها بالتوازي مع تكريس تراجع دور الدولة، وتخفيض الدعم المتتالي على مستلزمات الإنتاج الزراعي (محروقات- سماد- مبيدات وأدوية زراعية- أعلاف- أدوية بيطرية...).
يضاف إلى ذلك ما يجري بحق الأشجار بمختلف أنواعها من احتطاب جائر بغاية البيع كوسيلة تدفئة بديلة ومربحة، بسبب عدم توفر المازوت والكهرباء لهذه الغاية، وهذه التجارة المربحة لها تجارها الكبار البعيدين غالباً عن المساءلة أيضاً، فيما يقع ضحيتها الصغار من مأجوريهم من العاملين، أو القائمين على عمليات النقل بسياراتهم، بحال تم ضبط مثل هذه الحالات طبعاً.
وكذلك لا يمكن إغفال مواسم الحرائق الكارثية كل عام، الطبيعية والمفتعلة، وما تلتهمه من أشجار مثمرة وحراج وغابات، والتي يدفع ضريبتها المزارعون، بالإضافة الى الأضرار الكارثية على مستوى البيئة والاقتصاد الوطني عموماً.
لم يبق إلّا الأرض للمساومة اللاحقة
لقد أتى أخيراً الدور الجديد للتجار والسماسرة، كما سبق أعلاه، عبر شراء الأشجار المقتلعة من جذورها كشرط، لضمان أن تبقى الأرض بالنتيجة جرداء وبور.
فبحسب البيانات الرسمية أعلاه، فإن مساحة الأرض التي فرغت من الأشجار جراء عمليات اقتلاع الأشجار منها تبلغ مئات الدونمات في قريتين فقط (تيشور- المصطبة)، ولا ندري إن كانت هناك مساحات إضافية لم تدخل حيز الرقابة والضبط، وقد جرى اقتلاع أشجارها أيضاً، فالعملية التي أشير إلى أن عمرها الزمني شهر واحد، وكانت خلاله بعيدة عن أعين الرقابة، ربما تكون امتدت لغير قرى، وربما لغير محافظة أيضاً!
ومن الواضح، أن الغاية النهائية من ذلك هي الاستحواذ على الأراضي بأسعار بخسة، بعد أن جرى الاستيلاء على أرزاق المزارعين وإيقاعهم بخسارات متراكمة خلال السنوات الماضية، ووصولهم إلى حافة الفقر والعوز، الذين اضطر بعضهم الآن لبيع أشجارهم، وقد يضطرون لاحقاً، ليس لهجرة الأرض والزراعة فقط، بل للتخلي عن أرضهم نفسها أيضاً، فالسياسات الليبرالية المفقرة مستمرة، ولا أمل لدى هؤلاء بتحسين مستوى معيشتهم أو الاستفادة الحقيقية من عملهم بالإنتاج الزراعي، خاصة مع استمرار سياسات تخفيض الدعم المتتالي على مستلزمات إنتاجهم، مع زيادة استغلالهم من قبل الحيتان والسماسرة.
ولم لا؟ فالمساومة على شراء الأرض الجرداء والبور، تختلف عنها بحال كانت مزروعة ومنتجة، سواء كان ذلك بسبب الحرائق، أو بسبب اقتلاع الأشجار والاحتطاب، يضاف إلى ذلك أن إجراءات الترخيص لأي مشروع استثماري (عقاري أو سياحي) تكون أسهل عندما تكون الأرض جرداء وبور، وربما ليس من المستبعد أن نشهد خلال الفترة القريبة القادمة عمليات بيع للأراضي الزراعية التي تمت إحالتها إلى جرداء، مع منح مالكيها الجدد التراخيص اللازمة لاحقاً لإشادة مشاريعهم الاستثمارية فيها، حالها كحال ما سبقها من أراضٍ تم تحويل صفتها من حراجية أو زراعية إلى عقارية أو سياحية، والخاسر في هذه المساومة، وبمجمل العملية، هو المزارع كبداية طبعاً، والمستهلك تالياً، ومجمل العملية الإنتاجية بمجال الإنتاج الزراعي (النباتي والحيواني)، والاقتصاد الوطني في النهاية.
بكل اختصار
كل ما سبق مع مآلاته الكارثية، المسجلة حتى الآن والمتوقعة، سواء على مستوى الإنتاج الزراعي والأراضي الزراعية، أو كل ما هو منتج عموماً، يشير بأصابع الاتهام إلى كبار الفاسدين، وإلى حيتان المال وأثرياء الحرب وتجار الأزمة، وإلى مجمل السياسات الليبرالية التي وصلت إلى مرحلة التوحش على أيدي هؤلاء مجتمعين، ولا خلاص من الأزمات والكوارث المتشابكة، ومن المآلات المتوقعة الأكثر كارثية، إلا عبر الخلاص النهائي من هذه السياسات المتوحشة، ومن القائمين عليها، والمستفيدين منها!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1037