أزمة السكن من سيء إلى أسوأ..
شهدت محافظة دمشق، منذ بدء الأزمة وحتى الآن، استقطاباً كبيراً لحركة النزوح الداخلية للأهالي، بسبب انتشار الدمار في محيط المدينة وريفها، بالإضافة إلى استقطابها لجزء من أهالي بلدات ومناطق ومدن أخرى.
تقول بعض الإحصاءات: إن عدد سكان دمشق قبل 2011 كان بحدود 4 ملايين نسمة، بينما بلغ في السنوات الأخيرة ما يقارب 8 ملايين نسمة، مما شكل ضغطاً عالياً على المدينة في عدة جوانب، وخاصة على قطاع السكن.
تناقض صارخ
تشير بعض التقارير، أن مدينة دمشق احتلت المرتبة الثامنة عالمياً من حيث غلاء أسعار العقارات، وبأن الأرباح من ريع الأرض، خاصةً داخل المدينة، هي الأعلى، وكلف البناء، مع ارتفاع سعرها، لا تكاد تقارن بسعر الأرض بحد ذاتها، وقد كان ذلك مما قبل سني الحرب والأزمة، وبالتوازي مع ذلك كانت تعتبر بدلات الإيجار الشهري في دمشق الأكثر ارتفاعاً.
فقد ارتفعت إيجارات البيوت في دمشق بشكل كبير خلال السنوات الماضية، وقد تراوحت الآن بين 400 ألف ليرة وصولاً إلى عدة ملايين شهرياً، وذلك بحسب المكان ومساحة البيت ومواصفاته.
يضاف إلى ذلك أن ارتفاع تكاليف المعيشة في دمشق ليس بالأمر الجديد، ولا هو بسبب استقطاب النزوح الداخلي خلال السنوات الأخيرة فقط، بل لجملة من العوامل المتشابكة والمتداخلة، وخاصة انعكاس السياسات الاقتصادية الاجتماعية الليبرالية المطبقة، والتي ساهمت بشكل كبير في تدهور المستوى المعيشي للغالبية المفقرة.
أما التناقض الصارخ، فهو بين بدلات الإيجار الشهري بالمقارنة مع الأجور، فالمنزل الذي يبلغ بدل إيجاره الشهري بحدود 500 ألف ليرة، أي بما يعادل 6 مليون ليرة سنوياً، مقابل أجر شهري بحدود 100 ألف ليرة، يعني عجز شهري بمبلغ 400 ألف ليرة، وسنوي بما يعادل 5 مليون ليرة، دون أكل وشرب ومواصلات وطبابة وغيرها من تكاليف المعيشة والخدمات.
فهل هذا الأمر غائب عن الحكومة والمسؤولين عن قطاع السكن والإسكان؟
احتكار السوق
بات من المعروف أنه كي تتمكن من شراء بيت في هذا البلد، في هذه الأوقات، لابد أن تكون من أصحاب مئات الملايين، والمليارات أحياناً.
فسعر منزل في منطقة كالمالكي أو أبي رمانة أو تنظيم كفرسوسة أصبح يقارب المليار ليرة سورية، بل يتجاوز ذلك المبلغ، أما المناطق المحيطة بدمشق في الريف القريب، كصحنايا أو ضاحية قدسيا أو جرمانا، فأغلبية من يشتري المنازل هناك يشتريها لأغراض تجارية وللمضاربة لا للسكن، حيث لم يعد بمقدور المواطن العادي حتى أن يحلم بامتلاك منزل في العاصمة أو بمحيطها.
فبمتوسط سعر 300 مليون ليرة لمنزل على العظم يحتاج العامل العادي ذي الأجر الشهري 100 ألف ليرة إلى 250 سنة بدون أن يصرف من راتبه شيئاً حتى يحصل على منزل بهذا السعر!
بالمقابل، من الملاحظ أن أعداد المباني السكنية والمشاريع ليست بنقصان وإنما بزيادة، حيث تشهد بعض المناطق، مثل: الجديدة أو صحنايا بناء المزيد من المحاضر، المنتهية أو غير المنتهية، وهي بالغالب فارغة، حيث لا يشعر هذا المحتكر، سمسار العقارات صاحب رأس المال الكبير، من حاجة إلى أن يؤجر بيتاً واحداً من عشرات البيوت بسعر لا يرضيه، حتى وإن بقيت هذه المنازل فارغة إلى الأبد!
القوانين والقرارات والطرق الالتفافية
صدر في الشهر الثالث من العام الحالي قانون البيوع العقارية، القاضي بتشكيل لجان تحدد القيمة الفعلية للعقارات، وقيل: إنه سيحقق «عدالة ضريبية غير مسبوقة».
وقد انخفضت بعد هذا القانون حركة البيع والشراء للعقارات، باستثناء الاضطراري منها طبعاً، وذلك بسبب المبالغ الضريبية الكبيرة التي جرى التكليف بها استناداً لمضمون القانون.
يضاف إلى ذلك صدور بعض القرارات التي قيدت حركة الأموال، ووضعت سقوفاً للمبالغ التي يممكن سحبها من المصارف، وفرض ترك بعض المبالغ لفترة محددة في المصارف لقاء عمليات البيع والشراء (للعقارات والآليات).
كل ذلك أدى إلى ركود وتراجع في حركة البيع والشراء، بالإضافة إلى تزايد اللجوء للطرق الالتفافية هرباً من تطبيق بنود القانون والقرارات الصادرة، والتي دفع ضريبتها المواطن المضطر، وليس تجار العقارات وسماسرتها.
زيادات على حساب المستأجر
إن صعوبة، أو استحالة، شراء المواطن لمنزل خاص، بالإضافة لحركة النزوح الكبيرة، ساهمت بشكل كبير في زيادة الضغط على سوق الإيجارات، الأمر الذي ساهم بتغذية جشع المالكين على حساب المواطنين من الغالبية المفقرة، مما ساهم برفع أسعار بدلات الإيجار إلى حدود غير مسبوقة.
فأي تجديد لعقد إيجار، في أي مكان من دمشق أو في ريفها القريب، سيزيد مبلغه الشهري بنسبة تصل إلى 100% أحياناً بالمقارنة مع سابقه، وفي بعض المناطق كانت النسبة أعلى من ذلك، وقد ساهم في ذلك أيضاً قانون البيوع العقارية والضريبة المفروضة بموجبه لقاء عقود الإيجار، التي يسددها المستأجر، وليس المالك عملياً.
دور الدولة المغيب
إن غياب دور الدولة عن ملف السكن والإسكان منذ عقود، وعدم وجود خطط تلحظ ازدياد الحاجة للسكن بالتوازي مع الزيادة السكانية، مع غياب وتأخر المخططات التنظيمية في الكثير من المحافظات والمدن والبلدات، وترك الأمر لتجار العقارات وسماسرتها، كل ذلك ساهم بتفاقم أزمة السكن، وصولاً لانتشار وتوسع مناطق المخالفات والعشوائيات، بالإضافة إلى زيادة عوامل وهوامش الاستغلال، وطبعاً كل ذلك على حساب المواطنين المفقرين وحقهم في امتلاك السكن الصحي، بالمواصفة الفنية الجيدة، وبالسعر المناسب.
وبرغم كل الحديث عن تسهيلات العودة للأحياء والمناطق والبلدات التي تمت استعادة السيطرة عليها من قبل الدولة، وخاصة في ريف دمشق، وبرغم مرور السنوات على ذلك، إلا أن واقع انتشار الدمار الكلي أو الجزئي لبيوتها، بالتوازي مع تدني مستوى الخدمات العامة فيها (كهرباء- ماء- صرف صحي- مواصلات وطرقات..)، يحول دون تلك العودة، أو الحد منها، مع العلم أن عودة الحياة لهذه البلدات والمدن سيساهم بشكل كبير بتخفيف الضغط على السكن في المدينة، وبالتالي على أسعار العقارات وبدلات إيجارها.
فمن المستحيل الحديث عن أي حل لأزمة السكن المستعصية والمتفاقمة والمستمرة، أو الحديث عن إعادة الإعمار، في ظل استمرار غياب دور الدولة عن هذا الملف الهام، أو التغييب المتعمد لهذا الدور.
المشاريع الرسمية والعدالة الاجتماعية
الجدير بالذكر، أن منطقة، مثل: بساتين الرازي، كانت تؤوي عدداً كبيراً من سكان المنطقة، وعائلات مهجّرة إليها كانت قد رأت فيها ملاذاً، حيث كانت أسعار بدلات الإيجار في هذه المنطقة منخفضة نسبياً بالمقارنة مع غيرها في حينه، وكانت قريبة من مركز المدينة، ولكن بحكمة بالغة صدر المرسوم 66 الذي قرر إخراج الأهالي من بيوتهم، حيث وُعدوا بسكن بديل بعد فترة زمنية أقصاها أربع سنوات.
يذكر أيضاً، أن المشروع اُقرّ في عالم 2012 وقد انقضت ما يقارب ثماني أعوام ومازال أهل تلك المنطقة مستأجرين في عدة أماكن في محيط دمشق غالباً، حيث رأى منفذ المشروع أنه من الحكمة مع ازدياد عدد النازحين المستقطبين من خارج المدينة، أن يُهجر أيضاً بعضاً من أهلها في سبيل العدالة الاجتماعية! وطبعاً كل ذلك لمصلحة سماسرة العقارات وأصحاب الثروة والفاسدين.
وليس بعيداً عن ذلك ما يجري بخصوص منطقتي القابون وجوبر، والحديث عن المخططات التنظيمية الجديدة الخاصة بها، ومآل هذه المناطق على أيدي تجار العقارات وسماسرتها لاحقاً، في ظل غلبة دور ومصالح هؤلاء على مصالح مالكي البيوت الأساسيين في هذه المناطق، حالهم كحال المالكين في منطقة خلف الرازي، وكيف آل جزء هام من ملكياتهم إلى كبار أصحاب الثروة والفاسدين وتجار وسماسرة العقارات والمضاربين.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1034