جمرٌ تحت الرماد واحتياطيّ حطب الاشتعال
جرت مؤخراً بعض التحركات المحدودة ذات الطابع الشعبي المنظم في بعض بلدات جبلة وطرطوس والسويداء، تعبيراً عن تزايد حال الاحتقان لدى المواطنين من بعض المشاكل المزمنة ذات الطابع الخدمي والمعيشي، وقد مرت مرور الكرام على المسؤولين على ما يبدو، برغم تسليط الضوء عليها عبر بعض وسائل الإعلام بحينه، بدليل استمرار المشاكل التي أدت إلى ظهور هذا الطابع الشعبي كتحركٍ منظم، تعبيراً عن التذمر والمُطالب ببعض الحقوق، التي تعتبر بسيطة على مقاييس إمكانات الدولة المفترضة، حيث تم الاكتفاء بتقديم المزيد من التعهدات والوعود الرسمية فقط لا غير!.
فهل يمكن التغاضي وغض الطرف عن هذه الأشكال من الاحتجاجات الشعبية التي أخذت الشكل الجماعي المنظم مؤخراً، أو ما سبقها من احتجاجات محدودة متفرقة أخرى خلال السنوات الماضية، وكأن شيئاً لم يكن؟!
بعض التفاصيل
احتج الأهالي من بلدات (يحمور والفطاسية والزرقات وخربة المعزة والياذدية) على استمرار المشكلة المزمنة المتمثلة بمكب نفايات وادي الهدة، الذي أصبح كارثة بيئية وصحية تهدد المنطقة وأهاليها، خاصة بعد تلوث مياه الشرب من العصارة المركزة الصادرة عن القمامة، والتي اختلطت مع الصرف الصحي، وتغلغلت ملوثة الحوض المائي في المنطقة، بالإضافة إلى تلويث عشرات الآبار الخاصة فيها، وذلك باعتراف رسمي من قبل مدير المياه في المحافظة، ما أدى إلى استعار الغضب لدى الأهالي الذين عبروا عن ذلك من خلال قطع الطريق الواصل بين طرطوس وصافيتا، وكل المفارق المؤدية له، احتجاجاً على استمرار وجود مكب النفايات في المنطقة، والذي سبق أن تم الوعد بنقله خارج المحافظة، مع البدء بهذا العمل بحسب التصريحات الرسمية، وقد وعد محافظ طرطوس الأهالي بحل مشكلة المكب بشكل نهائي، بعد تأكيده على أن مشكلة تلوث مياه الشرب قد تم حلها، وما زال الأهالي بالانتظار!.
احتج الأهالي في السويداء على واقع مياه الشرب المتردي في المدينة، حيث قام بعضهم بالتوجه إلى مؤسسة المياه في المدينة، وقاموا بإغلاق مكاتبها، فيما قام آخرون بالقرب من قرية «أم ضبيب» بقطع الطريق الرئيسي المؤدي إليها احتجاجاً على التردي الخدمي، وخاصة بملفات المياه والكهرباء والغاز، والمعيشي عموماً، وطبعاً ما زالت هذه الملفات على حالها في المدينة وغيرها من المدن، بالرغم من كل الوعود الرسمية حيالها!
شهدت مدينة جبلة وقراها وبلداتها احتجاجات على آلية توزيع الخبز الجديدة تحت عنوان التوطين والتوزيع ومخصصات الأسر من الخبز كتخفيض جديد على الدعم، وقد قام بعض الأهالي في قرية ديرين بقطع بعض الطرق من خلال حرق الإطارات المطاطية فيها، كما شملت الاعتراضات على الآلية الجديدة مدنَ وبلدات اللاذقية وطرطوس، وقد كان الاحتواء الرسمي من خلال تعديل جزء من الآلية الجديدة المتبعة فقط لا غير، ولم تحل المشكلة من جذورها حتى الآن، بل هناك إصرار على تعميمها على بقية المحافظات!
من الفردي إلى الجماعي
مع تفاقم وتراكب الأزمات بعناوينها المختلفة (الاقتصادية- الاجتماعية- السياسية)، والتي تدفع ضريبتها الغالبية الشعبية المفقرة بالدرجة الأولى، تعاظمت شدة ودرجة الاحتقان لدى المواطنين، والتي لم تغب لحظة واحدة مما قبل انفجار الأزمة وحتى الآن، وخاصة في ظل اللامبالاة الرسمية تجاه بعض الحقوق التي يتم قضمها واستلابها تباعاً، واليأس وانسداد الأفق أمام أي تحسن على هذا المستوى، أو الإصرار على هذا القضم المتتالي للحقوق، برغم كيل الوعود الرسمية على مختلف مستوياتها، ولمختلف العناوين التي أصبحت ضاغطة على المواطنين وظالمة لهم، مثل: الواقع المعيشي المتردي ربطاً مع الأسعار المنفلتة والأجور المتدنية، وآليات تخفيض الدعم المتبعة والمتتالية على المواد الأساسية، وخاصة الخبز والمواد التموينية (رز- سكر) والمحروقات (مازوت- غاز- بنزين)، أو أنماط التعامل الرسمي مع الخدمات العامة (الكهرباء- المياه- شبكات الصرف الصحي- المواصلات- الطبابة..) التي تراجعت بشكل كبير برغم أهميتها وانعكاساتها السلبية على حياة عموم المواطنين، وعلى مجمل الواقع الاقتصادي الاجتماعي في البلاد، ناهيك عما يجري على مستوى غض الطرف عن عمليات النهب والفساد الكبيرين على حساب المفقرين ومقدرات الاقتصاد الوطني عموماً.
فإذا كان ما يرد على ألسنة المواطنين يومياً ولحظياً، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي من تذمر، يعتبر من أشكال التعبير الفردي «العفوي غالباً» عن حال الاستياء، فإن الشكاوى الجماعية في منطقة ما حول مشكلة خدمية أو معيشية معينة مطلوب حلها والمقدمة لإحدى الجهات الرسمية، أو النزول إلى الشوارع بشكل جماعي اعتراضاً على التأخر عن حل هذه المشكلة، تعتبر من أشكال العمل الجماعي المنظم، كدرجة أعلى في التعبير.
ولعل رصد التعبيرات عن حال الاستياء الشعبي العام من السهولة بمكان، بحيث من الممكن لحظها خلال الأحاديث اليومية المتبادلة بين المواطنين في البيوت، أو في الأماكن العامة، وخاصة المزدحمة (مواقف السرافيس ومراكز الانطلاق- طوابير الخبز- صالات السورية للتجارة- الصرافات..) بالإضافة لما يرد عبر وسائل التواصل الاجتماعي الشخصية والعامة، وخاصة كتعليقات على الصفحات الرسمية للجهات العامة، والتي تذخر بالانتقادات التي تأخذ الطابع التهكمي غالباً، يأساً من إجراءات تلك الجهات التي تنعكس سلباً على المواطنين، وعلى حقوقهم، أو ما يتم نقله عبر العديد من وسائل الإعلام كتغطية لحال وواقع عيش المواطنين في ظل تراجع وتآكل مقومات الحياة.
فمندرجات ما يمكن أن تكون محفزةً ومساعدةً على تفاقم حال الاستياء والاحتقان الشعبي العام ما زالت عناوينها متعددة ومتشابكة ومتراكبة، بحيث لا يمكن فصل إحداها عن الأخرى، وبمقابل ذلك، تعددت أدوات ووسائل التعبير عن حال هذا الاستياء، اعتباراً من أشكالها الفردية العفوية وصولاً إلى الجماعية المنظمة، برغم محدوديتها حتى الآن.
ليست الأولى ولن تكون الأخيرة..
مع تفاقم تردي الواقع المعيشي والخدمي والاقتصادي والسياسي، وإغلاق الأفق أمام أي تفاؤل بتغيير إيجابي حقيقي ما، تزايدت مستويات التذمر والاستياء الشعبي أكثر مما كانت عليه حتى قبل انفجار الأزمة الوطنية بعام 2011، والتي ما زالت تظهر تعبيراتها بأشكالها المختلفة، وسويّاتها المتباينة، برغم ما تراكم في الأذهان من مرارة، وما أفرزته سنوات الحرب والأزمة من أهوال على مستوى التشرد والنزوح واللجوء والضحايا والجوع و..و..
فما يظهر من تعبيرات ومظاهر استياء وتذمر ذات طابع جماعي- في بعض المناطق، أو بعض القطاعات- على قضايا ذات طابع خدمي ومعيشي كعناوين بارزة على السطح ومتراكبة مع كثير من العناوين الأخرى غير الظاهرة، لم تكن بدايتها بالاحتجاج في جبلة أو في طرطوس، أو الاحتجاج في السويداء، ولن تكون نهايتها أيضاً، بل ما هي إلا شكل متجدد من أشكال التعبير عن حال الاستياء والتذمر، وصولاً للاحتقان الذي ينذر بالانفجار مجدداً، بسبب العجز عن إيجاد الحلول لأية أزمة من الأزمات التي تواجهها الغالبية الشعبية، بل مع افتعال المزيد من الأزمات في عموم البلاد، بالارتباط طبعاً مع الأزمة الوطنية العامة المستمرة دون حلول حتى تاريخه، بسبب تعنت الأطراف المتشددة والمستفيدة من هذه الأزمة.
فهل سنكون أمام موجة جديدة من الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي قد لا تحمد عقباها، أم سيتم السير باتجاه الحل السياسي الناجز وفقاً للقرار 2254 من خلال تطبيقه الكامل، كمقدمة لا بد منها ولا بديل عنها من أجل إيجاد الحلول الحقيقية لكل الأزمات المتراكمة والمتشابكة منذ عقود وحتى الآن؟!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1032