الدخان الوطني وتحالف الفساد والاستغلال
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

الدخان الوطني وتحالف الفساد والاستغلال

ظاهرة احتكار بيع الدخان الوطني من قبل شبكات السوق السوداء ربما تعتبر نموذج فاقع عن تحالف الفساد والاستغلال، ومدى قوة وفاعلية هذه الشبكات المنظمة، وحجم تأثيرها على السوق وعلى المستهلكين، وامكاناتها على مستوى تحييد عمل ودور كافة الجهات الرسمية المسؤولة عن المادة وعن السوق وعن حماية المستهلك.

فما زالت أسعار الدخان الوطني توالي ارتفاعاتها في السوق، وما زالت محصورة ومتحكم بها من خلال هذه الشبكات فقط لا غير، حيث وصل سعر علبة الحمراء الطويلة إلى 1200 ليرة مثلاً، فيما تبدو أجهزة الدولة عاجزة عن استعادة دورها ومسؤوليتها وواجباتها، وعن وضع حد لهذا الانفلات والتفلت.

الأزمات والسوق السوداء

تنشط شبكات السوق السوداء على هامش وبعمق الأزمات التي تنشأ على مادة أو سلعة ما، وخاصة بعض السلع ذات معدلات الاستهلاك المرتفع، حيث تبدو بعض الأزمات مفتعلة بغاية زيادة دور وفاعلية شبكات السوق السوداء من أجل الحصول على أعلى هامش ربح اضافي، استغلالاً لحاجات الاستهلاك.
الأمثلة على ما سبق كثيرة جداً، فالمحروقات بكافة أنواعها ومسميات موادها تعتبر مثالاً على ذلك، وكذلك رغيف الخبز، وغيره من المواد. فالسوق السوداء على هذه المواد لها حصتها منها، ومع كل أزمة تنشط فارضة هوامش ربحها الاضافية عليها استغلالاً لحاجات المواطنين.
وبظل استمرار توالد الأزمات، المفتعلة غالباً، على بعض السلع والمواد، تزايدت امكانات التحكم بالأسواق والسلع وبالمستهلكين وحاجاتهم من قبل البعض، أفراد وشبكات، وارتفعت سوية تحكم وسيطرة السوق السوداء التي أصبحت تفرض ايقاعها استغلالاً وفساداً على حساب حاجات الاستهلاك.
ولعل الشبكة الجديدة المستحدثة على مادة الدخان الوطني مثالاً على استكمال تنظيم وضبط عمل مثل هذه الشبكات، وصولاً للهيمنة التامة على المادة في الأسواق دون منازع، متحكمة بالمادة كماً وسعراً، على مرأى ومسمع كافة الجهات الرسمية المعنية بالأمر.
ورد في مادة سابقة بتاريخ 7/9/2020، بعنوان: «الدخان الوطني.. شبكة سريعة التنظيم مع انضباط عالٍ»، ما يلي: «أسرع شبكة استغلال وفساد تمّ تشكيلها وتنظيم عملها بفترة وجيزة على سلعة في الأسواق المحلية، ومن الإنتاج المحلي، كانت شبكة بيع وتوزيع الدخان الوطني، فقد استطاعت هذه الشبكة السيطرة بشكل شبه كُلّي على أسواق هذه السلعة في المحافظات كافة، وبكل انضباط، كماً وسعراً، خلال فترة لا تتجاوز الشهر فقط، وأصبح من المستحيل الحصول على هذه المادة بشكل نظامي».
أما كيف ولماذا ولمصلحة من؟ فهذا بعهدة أولي الأمر، بل وبعلمهم!.

إجراءات شكلية غير كافية

بدأت مشكلة ارتفاع سعر الدخان الوطني في السوق تظهر مطلع شهر حزيران الماضي، ثم تفاقمت المشكلة لتصبح المادة مهيمن عليها بشكل شبه كلي من قبل حيتان السوق السوداء الذين احتكروا المادة، فارضين سعر مرتفع لها على مرأى ومسمع كافة الجهات المسؤولية عن المادة والسوق (مؤسسة التبغ ومراكز التوزيع وحماية المستهلك والمكافحة).
عند بدء ظهور المشكلة جرى الحديث بأن سببها زيادة الطلب على الدخان الوطني نظراً لسعره مقارنة مع أسعار الأجنبي، وقد وضعت مؤسسة التبغ رقم هاتف من أجل تلقي الشكاوي، كإجراء شكلي لم يكن كافياً، ثم بدأت بالإعلان عن قوائم التوزيع المعتمدة بكل محافظة عبر صفحتها الرسمية، ومع ذلك لم تسفر هذه الآلية عن جديد، تلا ذلك الاعلان عن توفير المادة عبر صالات السورية للتجارة، على ان توزع بمعدل علبتين لكل مواطن، لكن ذلك لم يحقق أية نتائج إيجابية، ثم جرى رفع سعر المادة رسمياً مما فاقم المشكلة أكثر، والنتيجة أن المادة أصبحت محتكرة كلياً من قبل شبكات السوق السوداء وبسعر مرتفع، وما زالت تسجل المزيد من الارتفاع على أسعارها.
تجدر الاشارة بهذا الصدد الى أن القوائم الاسمية المعلنة للمعتمدين عبر صفحة مؤسسة التبغ كانت في البداية مبوبة ومطبوعة وواضحة، ثم تغيرت وأصبحت بخط اليد، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه القوائم تفتقد للمعلومة الرئيسية وهي الكميات المسلمة لهؤلاء الموزعين المعتمدين من أصناف الدخان الوطني (حمراء طويلة ورق- حمراء طويلة لايت- حمراء قصيرة كرتون- شام قصيرة- الشام الطويلة- إيبلا- الحمراء الطويلة الكرتون- التنباك اللاذقاني– تنباك البزري)!.

أرباح الشركة عادية

بحسب البيانات المعلنة لوزارة الصناعة عن أرقام أعمال النصف الأول من العام الحالي، فقد بلغت كمية مبيعات مؤسسة التبغ خلال النصف الأول 4,682 طناً، بقيمة مبيعات قدرها 39 مليار ليرة سورية، وقيمة إنتاج 23 مليار ليرة، فيما بلغت صافي الأرباح 2,5 مليار ليرة.
الأرقام أعلاه عن كامل أرقام أعمال المؤسسة، ولا بيانات عن كم إنتاج أصناف الدخان المصنعة بحسب نوعها، بل متضمنة بالأوزان الكلية المعلنة.
على الطرف الآخر فإن الحديث الرسمي يقول أن الإنتاج اليومي لمؤسسة التبغ من مختلف الأصناف المصنعة من الدخان يبلغ 600 طن تبغ، وذلك نظراً لتوقف بعض المعامل عن الإنتاج.

هوامش الربح الفلكية

تم تحديد السعر الرسمي لعلبة الدخان الحمراء الطويلة بمبلغ 500 ليرة للمستهلك مطلع الشهر الحالي بعد أن كان 300 ليرة، متضمناً التكاليف مع هوامش ربح مؤسسة التبغ والموزع والبائع.
لكن الجديد أن هذه الشبكات لم تكتفِ بالسيطرة والهيمنة على سوق المادة، بل في فرض سعرها الاحتكاري فيها دون منافسة، ورفعه لتحقيق المزيد من هوامش الربح الاضافية الصافية، علماً أنها تعمل في حلقة البيع فقط عبر سلاسل مرتبطة بها، وقد وصل سعر هذه العلبة في السوق السوداء عبر شبكة الفساد والاستغلال إلى 1200 ليرة، أي أن الربح الاستغلالي الإضافي على كل علبة بلغ 700 ليرة، بنسبة هامش تبلغ 240% على سعر البيع الرسمي المتضمن التكاليف والأرباح، وكذلك كانت حال النسب على بقية الأصناف تقريباً، وهي حتماً نسبة مرتفعة جداً.
فإذا كان هناك 2 مليون مدخن يستهلكون الأصناف المنتجة محلياً من إجمالي عدد المدخنين، وبواقع علبة واحدة يومياً، وإذا احتسبنا وسطي ربح احتكاري استغلالي وقدره 500 ليرة في كل علبة، فإن ذلك يعني أن هناك مبلغ يقدر بحدود مليار ليرة سورية تستحوذ عليها هذه الشبكات المستحدثة، يجري توزيعها على العاملين في هذه الشبكات والقائمين عليها والمتسترين على عملها يومياً.
هل تخيلتم الرقم الكبير اليومي، وحجمه شهرياً وسنوياً، بحال استمرار سيطرة هذه الشبكة على هذه المادة؟!.
لا شك أن الأرقام أعلاه تعتبر كبيرة ومغرية، لذلك عمدت شبكات الاستغلال والفساد على استثمار الأزمة ساعية الى استمرارها، بل والى ضبط وتنظيم عمل شبكاتها.
فالمليارات أعلاه كربح صافي في الجيوب ليست كفيلة بضبط وتنظيم عمل الشبكة وتوسيع سيطرتها وهيمنتها فقط، بل على ما يبدو كانت كافية لتحييد وتهميش أي دور لأجهزة المتابعة والرقابة والمحاسبة، مختلفة التبعية الحكومية، بدليل ما نشاهده من عجز وغياب لدور هذه الأجهزة في الواقع العملي!.
والمفارقة ما زالت قائمة بأن المادة صناعة محلية حكومية بالكامل، ويتم توزيعها من قبل جهة عامة وفقاً لقوائم توزيع اسمية وكمية افتراضاً، وتتكفل عدة جهات حكومية بالمتابعة والرقابة على عمل السوق كما هو مفترض أيضاً!.
فهل من مزيد يمكن أن يضاف لمعرفة حجم ودور وفاعلية تحالف شبكات الفساد والاستغلال، القديمة والجديدة، وهل من مشكك بأن خلف هذه الشبكات هناك حيتان كبار، يديرون أعمالها ويحمونها ويستحوذون على حصتهم الكبيرة من الأرباح المقتطعة من جيوب المستهلكين، وعلى حساب الاقتصاد الوطني أيضاً؟!.

معلومات إضافية

العدد رقم:
985
آخر تعديل على الإثنين, 28 أيلول/سبتمبر 2020 13:39