التخفيض غير المعلن للدعم هل سيحل أزمة الخبز؟
بعد تفاقم أزمة الخبز، وبعد أن تزايدت مستويات الازدحام على طوابير الانتظار أمام المخابز والأفران، وبعد أن ارتفع سعر ربطة الخبز في محيط هذه المخابز إلى حدود غير مسبوقة، حيث وصل سعر الربطة إلى 500 ليرة، استغلالاً وفساداً، وافقت الحكومة خلال جلستها بتاريخ 15/9/2020 على الآلية الجديدة لتوزيع الخبز عبر البطاقة الإلكترونية، بما يتناسب مع عدد أفراد الأسرة.
فهل ستحل هذه الآلية الجديدة أزمة الخبز، أم ستفاقمها أكثر، وعلى حساب من، ولمصلحة من؟!
ارتجال لمصلحة الفساد
يبدو أن سمة الارتجال والعشوائية هي الغالبة على القرارات والتوجيهات بشأن الرغيف، فالنتائج على أرض الواقع بعد كل منها لم تحل الأزمة، كذلك لم تحد من أوجه الفساد والاستغلال، فمع كل قرار وتوجيه تستنفر شبكات الاستغلال والفساد نشاطها، وتزيد من هوامش نهبها على حساب حاجات استهلاك المواطنين.
فقد صدرت العديد من القرارات والتوجيهات خلال الفترة الماضية بشأن رغيف الخبز وأزماته غير المحلولة، ومع ذلك لم تحل الأزمة، بل زادت وتعمقت، كما توسعت معها شبكات الفساد والاستغلال العاملة في عمق إنتاج وصناعة وتوزيع هذا الرغيف وعلى هامشه، لنصل أخيراً للآلية الجديدة المبتكرة المعتمدة على الذكاء.
فقد بدأ صباح يوم السبت 19/9/2020 تنفيذ الآلية الجديدة في توزيع مادة الخبز عبر البطاقة الإلكترونية وفق نظام الشرائح، وذلك في جميع مخابز دمشق وريف دمشق واللاذقية.
وبحسب الآلية الجديدة، يحق للعائلة المؤلفة من شخص أو شخصين الحصول على ربطة خبز واحدة، والعائلة المؤلفة من ثلاثة أو أربعة أشخاص ربطتين، والعائلة المؤلفة من خمسة أو ستة أشخاص ثلاث ربطات، ومن سبعة أشخاص وأكثر أربع ربطات.
وعلى إثر تطبيق الآلية الجديدة نشطت شبكات الفساد مجدداً لتغطية النقص في حاجات الاستهلاك الفعلي للمادة.
وكأن هذه القرارات تصدر لمصلحة هذه الشبكات، لكن باسم مصلحة المواطن، وتحت عنوان توجيه الدعم لمستحقيه!
ولعل السبب في ذلك، أن كافة الحلول المقترحة كانت وما زالت تركز على الحلقة الأخيرة في سلسلة إنتاج الرغيف بعلاقتها المباشرة مع المستهلك فقط لا غير، بحيث تظهر المشكلة وكأن سببها المواطن ومعدلات استهلاكه ومشاكله الناشئة على طوابير الانتظار، في تغييب فج لكل المشاكل في كامل سلسلة الإنتاج، وما يتبعها من أوجه نهب وفساد، اعتباراً من صفقات القمح وصولاً لمستلزمات صناعة الرغيف قبل وصوله للمستهلك.
رغيف لكل وجبة فقط
الترجمة العملية للآلية الجديدة، هي أن حجم الدعم المقدم للمواطن على هذه المادة جرى تخفيضه، بذريعة الأزمة والحلول الذكية لها، لكن دون إعلان رسمي لهذا التخفيض!
فقد تم وضع سقف لحصة المواطن اليومية من مادة الخبز بناءً على الآلية الجديدة، وأصبحت هذه الكمية دون مستويات حاجة الاستهلاك اليومي منها، حيث أصبحت حصة الفرد اليومية تعادل تقريباً ثلاثة أرغفة فقط بوزن 650 غرام، هذا بحال كانت هناك دقة في وزن الربطة!؟
فهل يكفي رغيف خبز واحد للفرد فقط لا غير لكل وجبة، ومن أين سيحصل على كفايته اليومية من هذه المادة، وأين ذهبت مبالغ الدعم؟
تبرير ذرائعي في غير مكانه
في حديث لمدير عام المؤسسة السورية للمخابز عبر وكالة سانا بتاريخ 19/9/2020، قال: «إن الكميات مقدرة من المكتب المركزي للإحصاء بحيث يكون معدل حصة الفرد 260 غراماً يومياً من الخبز، بينما يحصل الفرد وفق الآلية الجديدة على نصف ربطة أي 3 أرغفة ونصف وزنها 650 غراماً للفرد».
على ما يبدو أن الآلية الجديدة بكمياتها وفقاً للشرائح أعلاه، جرى اعتمادها استناداً لهذا التقدير للمكتب المركزي للإحصاء المقتطع من سياقه بكل تأكيد، بل يبدو أن تقديرات المكتب المركزي للإحصاء أعجبت المسؤولين أخيراً، لكن بهذا السياق فقط، حيث لا تتجاوز حصة الفرد اليومية من مادة الخبز، رغيف ونصف فقط لا غير بالاستناد إليها، أي نصف رغيف في كل وجبة، وبحيث يبدو أن السقف الجديد الموضوع للاستهلاك استناداً للآلية الجديدة يبلغ ضعف حاجة الاستهلاك الفعلي!
لكن الحديث التبريري أعلاه، بالاستناد إلى تقديرات المكتب المركزي للإحصاء، ذرائعي ومنتقص، وفي غير مكانه!
فما تم إغفاله في الحديث عن تقديرات المكتب المركزي للإحصاء هو بقية الحصص من مكونات متكاملة لسلة الاستهلاك الغذائي اليومي للفرد كضرورة، من لحوم وأجبان وألبان وبيض وحبوب وبقوليات، وغيرها من المواد الغذائية الضرورية كحاجة لا بد من توفرها للفرد بالحدود الدنيا كي يبقى على قيد الحياة، وعلى حدود مستويات الأمن الغذائي، وهو ما أصبح من المستحيلات عملياً في ظل واقع التفاوت الكبير بين مستويات الأجور الثابتة ومعدلات الأسعار المنفلتة، وهوامش النهب والاستغلال المتزايدة.
أما أن يتم الاجتزاء بهذا الشكل فهو نموذج ذرائعي رسمي جديد للقفز على الواقع، وعلى حساب المواطن بالنتيجة، وهو ما جرى عملياً.
مع الأخذ بعين الاعتبار، أن مدير عام المخابز نفسه سبق وأن صرح معترفاً بما معناه أن معدلات استهلاك الرغيف تزايدت للتعويض عن نقص معدلات الاستهلاك في بقية مكونات سلة الاستهلاك الغذائي اليومي للمواطنين.
الأمن الغذائي على المحك
جميع الدراسات والتقارير تؤكد أن أكثر من 70% من السوريين هم غير آمنين غذائياً أو معرضين لانعدام الأمن الغذائي، والوقائع تشير إلى نسب أعلى من ذلك بكثير.
فالجوع والعوز يتزايد ويتفاقم بشكل مريع، ومعدلات الاستهلاك الأسري على مستوى المواد الغذائية تنخفض يوماً بعد آخر، وذلك لدرجات متدنية عن الحاجات الفعلية المطلوبة للبقاء على قيد الحياة.
وللتعويض الجزئي عن انخفاض معدلات استهلاك الكثير من المواد الغذائية الضرورية، تم اللجوء فعلاً إلى زيادة معدلات استهلاك مادة الخبز، وخاصة من قبل المفقرين والمعوزين، وهم الغالبية، باعتبار أن رغيف الخبز يعتبر من أهم عناوين الأمن الغذائي بالنسبة لهؤلاء.
لكن، وبدلاً من زيادة حصة الفرد من مادة الخبز جرى تخفيض هذه الحصة عملياً، أي الدفع بالمواطن نحو المزيد من انعدام الأمن الغذائي والعوز، بل ودفعه نحو السوق السوداء لتأمين حاجته الفعلية من رغيف الخبز.
بمعنى أدق، جرى منح فرصة جديدة لشبكات الاستغلال والفساد العاملة في عمق أزمة الرغيف كي تزيد من معدلات استغلالها لحاجات الاستهلاك الفعلي للمواطنين، أو الاضطرار للاستعانة بالرغيف السياحي، مرتفع السعر.
ذرّ الرماد في العيون
ما يفقأ العين، هو الحديث عن انخفاض مستويات الازدحام على الأفران، أو عن انخفاض كم الإنتاج اليومي في بعض المخابز على أنها نتيجة إيجابية تحسب للآلية الجديدة، علماً أن هذا النوع من الأحاديث ليس أكثر من ذرّ للرماد في العيون، وللتعمية عن- والتغطية على- شبكات النهب والفساد العاملة في عمق إنتاج وصناعة رغيف الخبز، على حساب المواطنين، وعلى حساب الاقتصاد الوطني، باعتبار أن للرغيف حصته من الدعم!
فمما لا شك فيه، أن وضع سقوف لمعدلات الاستهلاك ستنعكس على كم الإنتاج اليومي في بعض المخابز، لكن ذلك يعني فيما يعنيه أن الكثيرين أصبحوا غير قادرين على سد حاجة الاستهلاك الفعلي من هذه المادة لهم ولأفراد أسرهم.
أما الازدحام فما زال هو السمة السائدة على الأفران والمخابز، وكذلك وما زالت شبكات بيع الخبز على أطراف المخابز تعمل بكل نشاط.
ولا ندري ما ستتفتق عنه الجعب الرسمية من اقتراحات وتوجيهات لاحقاً من أجل حل المشكلة هامشياً، طالما هناك إبعاد لمسبباتها الحقيقية، وللمستفيدين منها!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 984