مسيرة تصفية شركات القطاع العام الصناعي إضعاف للدولة!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

مسيرة تصفية شركات القطاع العام الصناعي إضعاف للدولة!

يقول الخبر الذي تداولته وسائل الإعلام الأسبوع الماضي: «فوضت رئاسة مجلس الوزراء وزارة الصناعة بتشكيل لجنة مهمتها إعداد مشاريع الصكوك التشريعية لحلّ جميع الشركات المدمرة كلياً، والمتوقفة عن العمل والتي لا تحقق الريعية الاقتصادية والجدوى المطلوبة منها».

بالمقابل، وفي الجلسة الأسبوعية للحكومة بتاريخ 26/7/2020، أي قبل أسبوع من التفويض أعلاه فقط، وتحت عنوان: «تعزيز دور القطاع العام الصناعي بالتنمية الاقتصادية.. المهندس عرنوس.. ضرورة وضع الحلول والمبادرات للتعاطي مع المرحلة الراهنة بمرونة»، ورد التالي:
«اعتمد المجلس خطة وزارة الصناعة لتعزيز دور القطاع العام الصناعي في التنمية الاقتصادية، والاستثمار الأمثل للعمالة، وإعادة توزيعها لتأمين احتياجات المؤسسات الإنتاجية من الطاقات البشرية، وإعادة إقلاع جميع المنشآت المتوقفة، وزيادة الإنتاج وتنويعه لتلبية حاجة السوق المحلية».

الكرة في ملعب الصناعة!

التفويض أعلاه يتناقض مع كل شعارات «تعزيز دور القطاع العام الصناعي»، التي جرى تسويقها إعلامياً فقط دون أية خطوة عملية تنفيذية وجدية بهذا السياق خلال العقود الماضية، كما يتناقض حتماً مع المصلحة الوطنية، بعد أن ثبتت لكل وطني عاقل أهمية دور هذا القطاع، كما الإنتاج عموماً، خاصة خلال سني الحرب ونتائجها ومفرزاتها، وتحديداً في مواجهة آليات الحصار والعقوبات التي تم فرضها، ونتائجها المستمرة وغير المنتهية علينا حتى الآن.
ولعل المثال على ما سبق يتجلى من خلال توجيهين حكوميين متناقضين «شكلاً ومضموناً» خلال أسبوع واحد فقط!.
فالتفويض الحكومي شمل: «جميع الشركات المدمرة كلياً، والمتوقفة عن العمل التي لا تحقق الريعية الاقتصادية»، وخطة وزارة الصناعة المعتمدة حكومياً شملت: «إعادة إقلاع جميع المنشآت المتوقفة وزيادة الإنتاج وتنويعه لتلبية حاجة السوق المحلية».
والنتيجة العملية، بغض النظر عن التناقض الظاهر، أن كرة التصفية لبعض شركات القطاع العام الصناعي عبر «إعداد الصكوك التشريعية» اللازمة لهذه الغاية، أصبحت في ملعب وزارة الصناعة ولجنتها المزمعة الآن.
لكن يبقى السؤال: هل هناك تناقض فعلاً بين التوجيهين الحكوميين؟!.

نوايا مبيتة ومسيرة مظفرة

لا جديد في القول: إن التفويض أعلاه هو ثمرة جديدة من ثمار مسيرة السياسات الليبرالية الممتدة منذ عقود، والتي وصلت لمرحلة التوحش، التي عملت على تقويض شركات القطاع العام الصناعي وإضعافه، وصولاً لتصفيته، تحت عناوين «الإصلاح» تارة و«تحقيق الريعية» تارة أخرى، و«التشاركية» لاحقاً، وما بين هذه العناوين من توجهات لا تخرج عن سياق الهدف العام لهذه السياسات المعادية للإنتاج عموماً، وقد أتت مفرزات الحرب والأزمة لتسرّع من وتيرتها، خاصة بعد دمار وتوقف بعض شركاته، كلاً أو جزءاً.
فالتفويض أعلاه، استند إلى تأكيد حكومي سابق على وزارة الصناعة، مطلع شهر حزيران الماضي، يتضمن: «ضرورة موافاة رئاسة مجلس الوزراء بمشاريع الصكوك اللازمة لحلّ الشركات المدمرة بشكل كامل، والمتوقفة عن العمل، التي لا تحقق الريعية الاقتصادية، والجدوى المطلوبة».
فقد ورد عبر موقع «أخبار الصناعة السورية» بتاريخ 2/6/2020: «أكدت رئاسة مجلس الوزراء، على وزارة الصناعة، ضرورة الإسراع بمعالجة واقع شركات القطاع العام الصناعي، لجهة تطوير عملها، ودراسة تكاليف الإنتاج فيها، وإعادة هيكلتها، بالتنسيق مع وزارة التنمية الإدارية والبشرية».
وقد سبق ذلك الكثير من الاجتماعات لما سمي «اللجنة العليا لإصلاح مؤسسات القطاع العام الاقتصادي»، التي أتى في أحد اجتماعاتها بتاريخ 18/2/2020، بحسب الموقع الحكومي: «ناقشت اللجنة العليا لإصلاح مؤسسات القطاع العام الاقتصادي خلال اجتماعها اليوم- برئاسة المهندس عماد خميس رئيس مجلس الوزراء- السياسات المقترحة على مستوى الصناعات النسيجية في مجال الدعم، وإعادة إعمار الشركات المتضررة وإلغاء الشركات المدمرة عديمة الجدوى الاقتصادية، وإنشاء بيئة قانونية وتشريعية جديدة ناظمة لقطاع الصناعات النسيجية وبنك معلومات خاص بهذه الصناعات.. وتمّ الطلب من وزارة الصناعة إجراء مسح شامل لجميع مؤسسات القطاع العام الصناعية، وتقديم رؤية تفصيلية متكاملة ومقترحات إصلاح هذه المؤسسات ليتم مناقشتها واعتمادها من قبل اللجنة العليا».

مروحة واسعة مفتوحة

القطاع العام الصناعي من القطاعات الرئيسة الكبيرة والهامة، فهو يشمل: /26/ شركة تتبع المؤسسة العامة للصناعات النسيجية، /13/ شركة تتبع للمؤسسة العامة للصناعات الهندسية، /13/ شركة تتبع المؤسسة العامة للصناعات الكيميائية، /22/ شركة تتبع المؤسسة العامة للصناعات الغذائية، /9/ شركات تتبع المؤسسة العامة للإسمنت ومواد البناء، بالإضافة إلى وحدة لتصنيع القطع التبديلية، ومركز للتدريب المهني، /9/ معامل وشركات تتبع المؤسسة العامة للسكر، /18/ محلج تتبع المؤسسة العامة لحلج وتسويق الأقطان، /8/ معامل تبغ وسجائر وفلاتر وغلافات تتبع المؤسسة العامة للتبغ، بالإضافة إلى مراكز الاستلام، وبمجموع وقدره /118/ شركة ومعمل موزعين على كافة محافظات القطر، يعمل فيها عشرات ألوف العمال، ناهيك عن دوره على مستوى سلاسل الإنتاج في معامل وشركات القطاع الخاص، وعلى مستوى سلاسل التوزيع والتسويق والبيع التي تعمل خلالها شركات القطاع العام والخاص أيضاً، وما يؤمنه كل ذلك من فرص عمل كبيرة متكاملة على طول هذه السلاسل.
وبالعودة للتفويض، فقد شمل: «جميع الشركات المدمرة كلياً، والمتوقفة عن العمل التي لا تحقق الريعية الاقتصادية والجدوى المطلوبة منها».
فإذا كانت ذريعة «الدمار الكلي» لبعض الشركات الصناعية العامة مبرراً حكومياً لاستكمال عملية التصفية النهائية لها، عبر وضع الصك التشريعي اللازم لهذه الغاية، فإنه ووفق الشمول أعلاه سيتم زج بعض الشركات «المتوقفة» بهذه التصفية النهائية أيضاً، بذريعة «الريعية الاقتصادية والجدوى»، وهذا الشمول يعتبر مروحة واسعة يمكن إدراج الكثير من الشركات أعلاه ضمن غاياتها.

الخطة مصاغة مسبقاً

بهذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن وزارة الصناعة كانت قد وضعت ما سمته: «إستراتيجية الوزارة.. خطة عمل وزارة الصناعة لتنشيط القطاع الصناعي»، والذي تضمن «الإجراءات التنفيذية الواجب اتخاذها حيال الشركات التابعة»، وفقاً للتقسيمات الخمسة التالية: الشركات الرابحة- الشركات الحدية أو الخاسرة، وهناك إمكانية لتشغيلها ونقلها إلى الربح- الشركات الخاسرة التي بحاجة إلى تطوير خطوط إنتاجها- الشركات المتوقفة التي لا توجد جدوى من تشغيلها- الشركات الخاسرة بسبب الظروف الحالية.
ولكم أن تتخيلوا، على ضوء الخطة السابقة، كيف سيجري تطبيقها على الشركات والمعامل الـ/118/ أعلاه، بما ينسجم مع السياسات الليبرالية المطبقة المعادية للإنتاج عموماً، وللقطاع العام الصناعي خصوصاً، بغض النظر عن ذرائع الدمار والتوقف عن العمل والريعية و..!.
أما اللافت في أمر «الإجراءات التنفيذية» و«الاستراتيجية» بحسب الموقع الرسمي للوزارة، أنها تعتمد مبدأ «الربح والخسارة» فقط لا غير في تقييم دور وعمل الشركات الصناعية، برغم أهمية ذلك طبعاً، بعيداً عن دور القطاع الصناعي الحكومي على مستوى الاقتصاد الكلي، وبعيداً عن دوره الاجتماعي أيضاً، وهذا وذاك يصب في المصلحة الوطنية بالمحصلة، مع عدم تغييب دور النهب والفساد وتأثيره على مبدأ «الربح والخسارة» المعتمد في التقييم!.
فحصة النهب المغيبة لها الدور الكبير في التقييم السلبي طبعاً، ناهيك عن كل المعيقات والصعوبات، المتراكمة وغير المحلولة، التي حالت دون تمكن هذه الشركات من القيام بمهامها كما هو مفترض خلال السنين الطويلة الماضية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: (مستلزمات الإنتاج- سياسة الأجور- عمليات الصيانة والتجديد- تسويق الإنتاج...)، وقد سبق أن جرى الحديث مطولاً وبالتفصيل عن هذه العناوين وغيرها عبر صفحات قاسيون.

قوة الدولة وعداء السياسات

تمارس الدولة دورها عبر مؤسساتها وجهاتها التابعة، وقوة الدولة تتأتى كمحصلة لقوة ودور هذه المؤسسات بمختلف مستوياتها، والحديث عن دور وفاعلية القطاع العام، الصناعي والخدمي و..، بهذا السياق يوصلنا بشكل أو بآخر إلى دور الدولة نفسه وفاعليته، فإضعاف الأول هو إضعاف للثاني من دون أدنى شك، والعكس بالعكس، وبالتالي، إن السياسات التي تقوّض الأول لن تؤدي إلا إلى تقويض الثاني، وهو ما نلمسه على أرض الواقع عبر السياسات الليبرالية المتبعة منذ عقود، وما وصلنا إليه على المستوى الاقتصادي الاجتماعي من تردٍ وإضعاف لدور الدولة، حصدنا نتائجه السلبية على المستويات كافة، بما في ذلك على المستوى الوطني والمصلحة الوطنية، وما زلنا نحصد هذه النتائج مع الأسف بسبب استمرار العمل بهذه السياسات نفسها، بل والإصرار عليها.
فالسياسات الليبرالية المطبقة والمستمرة لم تعد معادية لمصالح غالبية المواطنين فقط، بل معادية لمصالح الدولة وقوتها، وللمصلحة الوطنية عموماً، وكل من يحاجج ويستقوي بها، فهو يستقوي على الدولة والمصلحة الوطنية، ويعاديهما معاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
978
آخر تعديل على الإثنين, 10 آب/أغسطس 2020 13:37