هل حماية المستهلك مستحيلة؟
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

هل حماية المستهلك مستحيلة؟

تجاوزت ارتفاعات الأسعار كل الحدود، وفوضى التسعير شملت كافة الحلقات، لكافة السلع والبضائع في السوق، سواء كانت مستوردة أو منتجة محلياً، والذرائع الممجوجة كتبرير لهذه الفوضى استنزفت الجيوب، استغلالاً وفساداً.

فموضوع فوضى الأسعار وارتفاعها المستمر تجاوز كل المبررات والذرائع المعتادة، اعتباراً من ذريعة تذبذب سعر الصرف، مروراً بذرائع العقوبات والحصار، وليس انتهاء بالتغني بآليات السوق والعرض والطلب، وضمناً الكثير من الذرائع الأخرى.

فوضى تسعير ومواصفة

إذا آمنا وصدقنا بمشروعية بعض هذه المبررات لرفع أسعار بعض السلع بما يتوافق مع حقيقتها افتراضاً، فإن الواقع يقول: إن ما يجري في السوق من فوضى تسعير تجاوز هذه المبررات بأشواط، مع غض الطرف على هذه الفوضى، مما زاد من عوامل الاستغلال والتحكم بالأسواق والسلع، وبالمستهلكين، ومن جيوبهم وعلى حساب ضروراتهم.
فكيف نقتنع بالأسعار في السوق بأنها دقيقة ومراقبة، في ظل هذه الفوضى؟.
أو أن ما يسمى ببطاقة البيان تتضمن المعلومات الحقيقية عن السلعة، في ظل تزايد مستويات الغش؟.
علماً أن هناك الكثير من البضائع في السوق غير مسعرة، ولا تحمل بطاقة بيان أيضاً، ناهيك عن البضائع مجهولة المصدر، بما في ذلك المهرب منها، والتي تعتبر خارج سياقات السعر والمواصفة، سواء الرسمية أو المتعارف عليها.

هوامش المناورة  بالتسعير متروكة للكبار

تقوم وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك بتسعير بعض المواد والسلع الأساسية فقط مركزياً، طبعاً بالاعتماد على بيانات المستوردين وتكاليفهم بالدرجة الأولى، وبعد إضافة هوامش الربح الخاصة بحلقات البيع، ومع ذلك تتفاوت أسعار هذه السلع في الأسواق، وتستمر بالارتفاع.
فكيف الحال مع بقية السلع والبضائع التي يجري تسعيرها مكانياً، أو التي يُترك للمنتج أو المستورد تحديدها استناداً لتكاليفه مع هوامش الربح، أو التي تترك للسوق حرية تسعيرها من بوابة آليات العرض والطلب؟.
وكل ذلك يعتبر مشروع ورسمي ومبوب بتعليمات طبعاً، أي إن هامش المناورة بالتسعير متروك لكبار التجار والمستوردين عملياً وبشكل رسمي، رغم كل ما يقال عن التدقيق والرقابة الرسمية عليها!.

الفوترة والضحية والحلقة الضعف

أما ما يفقأ العين أنه وبرغم كل هذا الهامش الاستغلالي المتاح على مستوى التسعير لكبار أصحاب الأرباح، هناك هوامش استغلال إضافية جرى تكريسها من قبل هذه الشريحة المتحكمة بالسلع والأسواق على حساب المستهلكين، وليس أدل على ذلك من تهربها من «الفوترة» مثلاً، حيث تضاف هوامش ربح إضافية كبيرة حتى عن السعر المقترن بالتكلفة والمحدد من قبل هذه الشريحة نفسها عملياً، والتي يقع ضحيتها المستهلك بالنتيجة على مستوى السعر النهائي للسلع، وأحياناً بائع المفرق باعتباره الحلقة الأخيرة والأضعف، مع عدم تبرئته طبعاً.
فجهاز حماية المستهلك ينشط على هذه الحلقة غالباً دون سواها من حلقات التبادل والتوزيع الأكبر والأهم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا النشاط الرقابي غالباً ما يكون استناداً لشكوى، أما ما عدا ذلك فهو عبارة عن جولات روتينية ذات طابع ترويجي دعائي، مع عدم تغييب بعض أوجه الفساد فيها.

السياسات والقوانين المفرغة من محتواها

هذه الهوامش الاستغلالية الواسعة والمسكوت عنها ليست إلا نتاج سياسات المحاباة الرسمية لهؤلاء الكبار، خاصة وأن جلها يُعتبر مقونناً ونظامياً.
فأمر فوضى التسعير والمواصفة السائدة ليس بسبب قلة عناصر جهاز حماية المستهلك فقط، رغم مشروعية هذا السبب نسبياً، وليس بسبب محدودية العقوبات وقصورها في القوانين النافذة، والذي يجري الحديث عن التشدد بها بموجب التعديلات المزمعة على قانون حماية المستهلك حالياً، بل في آليات العمل التي تحكمها وتضعها وتنفذها السياسات القائمة، وتستفيد منها شريحة كبار أصحاب الأرباح والفاسدين، الشريكة عملياً في وضع هذه السياسات والقائمة على تنفيذها.
فمن فرّغ القانون المعمول به الآن، أو ما سبقه من قوانين، من محتواه وجيّره لمصلحته، ليس عاجزاً عن تفريغ وتجيير غيره من القوانين، مهما كانت صياغاتها محبوكة ومسبوكة!. فكيف الحال عندما يكون مشاركاً بوضع هذه الصياغات، بل فارضاً بعضها لمصلحته غالباً؟! وهو حال هيمنة هؤلاء الكبار، ليس على مستوى الأسواق والتسعير فقط، بل على مجمل العمل الاقتصادي والمالي والاستثماري و...

حماية المستهلك مشروطة بالإرادة السياسية

أصبحت عبارة «حماية المستهلك» الملصقة بالوزارة ومديرياتها في المحافظات، للتندر والتهكم بالواقع العملي من قبل جميع المواطنين، فلا حماية على مستوى الأسعار، ولا على مستوى المواصفة والجودة، ولا على مستوى المصدر، ومن الصعب الوصول إلى حماية مستهلك حقيقية في ظل استمرار السياسات الليبرالية المحابية لمصالح كبار أصحاب الأرباح فقط لا غير، على حساب مصالح الغالبية من المواطنين، وعلى حساب مصلحة البلد أيضاً.
بالمقابل، يمكن القول: إن الدولة ليست عاجزة عن حماية المستهلك، وربما بنفس مضمون العقوبات المنصوص عنها بموجب القوانين المعمول بها، وبنفس تعداد عناصر الرقابة المتوفرة، عبر فرض آليات حساب التكاليف الحقيقية، مع فرض التقيّد بهوامش الربح القانونية، مع فرض نظام الفوترة عبر كافة حلقات البيع والتداول وصولاً للمستهلك، فلا استحالة بذلك، لكن كل ذلك يجب أن يكون مقترناً بالبداية بتوفر الإرادة السياسية للمضي بهذه الحماية وصولاً إلى مبتغاها، وهذه الإرادة تعني استعادة دور الدولة الذي جرى التخلي عنه عبر العقود الماضية تباعاً، وعملياً تعني تغيير كافة السياسات المجحفة المعمول بها، وكل ما عدا ذلك ما هو إلا لذر الرماد في العيون.

معلومات إضافية

العدد رقم:
966
آخر تعديل على الأربعاء, 20 أيار 2020 14:11