رغيف الخبز.. تجريبٌ ورعبٌ مُتنقل!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

رغيف الخبز.. تجريبٌ ورعبٌ مُتنقل!

تداولت بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، خلال الأيام الماضية، الكثير من الصور التوثيقية، المؤسفة والمرعبة، التي ترصد الآلية الجديدة لتوزيع مادة الخبز على المواطنين في بعض المدن والمناطق والأحياء، مع ردود فعل المواطنين عليها.

المؤسف في الصور ليس استمرار شدة الازدحام والتدافع بين المواطنين من أجل الحصول على رغيف الخبز، بل الأكثر رعباً هو سقوط الغاية التبريرية لهذه الآلية الجديدة والمتمثلة بـ«منع التجمعات» حفاظاً على صحة وسلامة المواطنين من فيروس الكورونا، فالتجمعات مستمرة ولا صحة ولا سلامة فيها، أما الأسوأ فهو أن مشكلة تأمين رغيف الخبز للمواطنين أصبحت أكبر وأعمق.

رغيف الخبز وحيداً بالمواجهة

مع إجراءات الحظر المتزايدة، وما نجم عنها على مستوى توقف الأعمال وفقدان مصادر الرزق لشرائح واسعة من المجتمع، ومع ارتفاع مستويات الاستغلال في الأسواق وخاصة على السلع الغذائية وارتفاع أسعارها، فقد تراجعت سلة الاستهلاك الأسري بشكل كبير عما سبق، وربما تم التعويض عن ذلك بزيادة معدلات استهلاك مادة الخبز، وهو أمر طبيعي في مواجهة حالة الجوع القائمة والمتزايدة لدى الغالبية الساحقة من السوريين، فرغيف الخبز بالنسبة لهؤلاء لم يعد مادة غذائية أساسية فقط، بل ربما أصبح المادة الغذائية الوحيدة على خط مواجهة الجوع والمرض، وبالتالي فإن كل حديث عن الهدر من قبل المواطنين لهذه المادة، كما درجت عليه العادة بين الحين والآخر، يعتبر ساقطاً حالياً، ولا يمكن اعتباره إلا ذريعة لتبرير التقصير والترهل، وللتعمية عن الفشل والاستغلال، بل على العكس، لعل ذلك يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار عند حساب كميات الدقيق وكم الإنتاج من مادة الخبز بما يتناسب والحاجة المتزايدة للمادة خلال هذه الفترة، وبسبب ظروفها الاستثنائية.

مواصفة متدنية واستغلال

تجدر الإشارة هنا إلى أن رغيف الخبز أصبح أسوأ حالاً مما سبق، ناحية المواصفة والجودة، وكأن الجائحة والإجراءات الاحترازية والوقائية المتخذة، والتي أدت إلى زيادة الطلب على المادة نسبياً، كانت مبرراً لزيادة تدني مواصفة وجودة الرغيف، برغم كل التأكيدات الرسمية التي تقول عكس ذلك، كما كانت سبباً في زيادة الاستغلال لحاجة المواطنين لهذه المادة الحياتية.
فقد ارتفع سعر ربطة الخبز التمويني في السوق السوداء أضعافاً مضاعفة عما سبق، وأصبح رغيف الخبز الطازج عملة نادرة، وهذا الأمر لم يقتصر على الخبز التمويني فقط، بل ينطبق كذلك على الخبز السياحي والخبز السكري أيضاً.
فالتجارة برغيف الخبز واستغلال حاجة المواطنين لهذه المادة أصبحت أكثر من السابق، وزادت عليها الإجراءات والآليات الضبابية الجديدة، التي يغلب عليها الطابع الارتجالي أيضاً.

رغيف الخبز أصبح أكثر رعباً

الصور المتداولة والوقائع تشير إلى أن الآلية الجديدة على المستوى التنفيذي لم تحل مشكلة الازدحام، ولم تمنع التجمعات، بل عممتها في كافة المدن والمناطق وحولتها إلى كافة الأحياء، والنتيجة، أن صحة وسلامة المواطنين ضُرب بها بعرض الحائط، والخطر من الازدحام والتجمع أصبح على أشده، وكل الحديث عن الوقاية مع كل التحذيرات من التجمعات ذهبت أدراج الرياح، بل زادت إمكانية انتشار وتفشي الأمراض والأوبئة أكثر مما سبق، والأسوأ عدم وصول المادة لجميع المواطنين كما هو مفترض، حيث استمرت ظواهر المحسوبية والوساطة لحساب البعض على حساب الآخرين، كما استمر الاستغلال وتزايد أيضاً.
ومع استمرار وتتالي التعليمات والإجراءات الوقائية والاحترازية، وصولاً لما يشبه الحجر الإلزامي حالياً، تبدو مشكلة تأمين رغيف الخبز أكثر رعباً للمواطنين بظل عدم وضوح آلية التوزيع الجديدة، والملاحظات الكثيرة عليها حتى تاريخه، والأهم: أن المادة أصبحت أكثر ندرة، ما يعني أن القوت اليومي للمواطنين أصبح مثار تساؤل حيال إمكانية تأمينه بعدالة ووفق الحاجة للجميع!.

أحاديث الناس

فيما يلي ما عقب به بعض المواطنين على صفحات التواصل الاجتماعي عن الآلية الجديدة:
«بستغرب كيف محافظة دمشق والتجارة الداخلية ببلشوا توزيع الخبز من دون إصدار جدول لتعرف الناس وين المعتمدين وشو الآلية ومن أية ساعة ببلش هالشي».
«قرار خطأ عشوائي بعيد كل البعد عن الواقع.. انتقل الازدحام من الأفران إلى الطرق الرئيسية.. استفاد المعتمد 25 ليرة على كل ربطة.. عائله كبيره تكفيها ربطة.. تعددت أيادي الواسطة».
«المخاتير ورؤساء البلديات واللجان فشلو من قبل بتوزيع المازوت والغاز وأضاعوا حقوق كثير من الناس..».
«أفضل وأسرع طريقة لوصول الفايروس لكل بيت... ألف يد عم تلمس الرغيف خلال التعبئة والنقل بالسيارات والتوزيع على البيوت... ديليفري نظامي للفايروس».

تنصل من المسؤولية واستباقاً على الملاحظات!

تقاذف المسؤوليات والتنصل منها ليس جديداً، ولم تكن السورية للمخابز استثناءً بهذا المجال، فقد ورد على صفحتها الرسمية، وفي خطوة استباقية على أية ملاحظة يمكن أن توضع من المواطنين على الآلية الجديدة، ما يلي:
«يحاول حالياً عدد من أصحاب المخابز الخاصة والفاسدين من العاملين بالمخابز الآلية والمتاجرين بلقمة المواطن ومهربي الدقيق ومن يقف وراءهم التشويش والشغب على هذه التجربة التي تضمن وصول ربطة الخبز لكل عائلة بيسر وسهولة وبمواصفات ونوعية جيدة وذلك خلال بث الإشاعات وحملات التضليل على المواقع الالكترونية عبر صفحات التواصل الاجتماعي من خلال زعمهم بشكل مسبق بأن هذه التجربة فاشلة ولن يستطيع المواطنون الحصول على حقهم من الخبز وأنه يتم بيعها بسعر زائد أو أن الخبز المنتج ليس بنوعية جيدة، الأمر الذي يدلل على أن هذه الآلية الجديدة في عملية الإنتاج وتوزيع الخبز تكشف ما كان يجري من الهدر والتلاعب بمستلزمات إنتاج الخبز».
وقد توج مدير السورية للمخابز التنصل من المسؤولية بقوله، عبر «شام إف إم«: إن «دور المؤسسة السورية للمخابز هو إنتاج المادة فقط، والتوزيع عبر المكاتب التنفيذية ولجان الأحياء في المحافظات».
لعل الصور الموثقة والمتداولة تعتبر رداً كافياً على ما سبق، لكن ذلك لا يمنع التأكيد على ما قيل أعلاه بشأن «الهدر والتلاعب بمستلزمات إنتاج الخبز»، وعن دور «الفاسدين من العاملين بالمخابز والمتاجرين بلقمة المواطن ومهربي الدقيق ومن يقف وراءهم»، وهي مشاكل قديمة مستجدة، ومستمرة، وجرى الحديث عنها مراراً وتكراراً، كما أن ذلك لا يعني بحال من الأحوال الوصول لهذا الشكل من التنصل من المسؤولية وتجييرها، لا من قبل السورية للمخابز ولا من قبل الوزارة المعنية!.

الخط الأحمر

لا شك أن الجائحة تمثل خطراً كبيراً على الصحة والسلامة، لكن الآليات المبتكرة لتوزيع مادة الخبز وفقاً للأشكال المتبعة والموثقة حتى تاريخه تحمل المزيد من الأخطار، ناهيك عن أنها لم تمنع الاستغلال، ولم تحد من النهب.
ومن المفروغ منه أن رغيف الخبز من مسؤولية الحكومة ووزارة حماية المستهلك، وبعهدة السورية للمخابز أولاً وآخراً، وكذلك ضمان حق المواطن بأن تصل المادة إليه بظل الظروف الطارئة والاضطرارية الحالية، بمواصفة وجودة جيدة وبسعرها النظامي.
ولعل المعادلة ليست صعبة، فكما فرضت الحكومة توجيهاتها بشأن الحظر، ووضعتها موضع التنفيذ عبر أجهزتها، فلن يُعجزها أن تمارس دورها بوضع تعليماتها بشأن إيصال مادة الخبز، والمواد الغذائية الأخرى، للمواطنين في أماكن سكنهم، بشكل عادل وفعال، موضع التنفيذ أيضاً.
فالخطر الأكبر يتمثل بعدم وصول هذا الرغيف إلى كافة المواطنين، وبما يؤمن حاجتهم الفعلية، بهذه الظروف أو بغيرها، ليس على مستوى زيادة الجوع والمرض فقط، بل والأهم، على مستوى حال الاستقرار المجتمعي أيضاً، وربما لذلك تم اعتبار رغيف الخبز خطاً أحمرَ!.

معلومات إضافية

العدد رقم:
959
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 14:08