دعوات مقاطعة السلع وخلط الأوراق
دعوات التقشف وشد الأحزمة والتقنين والترشيد والمقاطعة ليست جديدة، لكنها أصبحت أكثر فجاجة ووقاحة، خاصة في ظل ما وصلت إليه حدود التفاوت الطبقي من فجور، وفي ظل التخلي الرسمي عن الأدوار المفترضة للدولة.
لقد أمضينا حياتنا ونحن بحال التقشف وشد الأحزمة، ليس خلال سني الحرب والأزمة فقط، بل ومنذ عقود، فقد عانينا من سياسات الترشيد والتقنين، وطوابير الاستغلال والذل وهدر الكرامة، وما زلنا، في الوقت الذي تزايدت فيه مظاهر البذخ والترف لدى النخبة الثرية والفاسدة المحظية والمتحكمة، صاحبة القرار والقول الفصل، فلا تقنين تعاني منه، ولا شد أحزمة يطالها، ولا ترشيد يشملها، ولا تقشف تعرفه، ولا مقاطعة مستعدة لها.
خلط أوراق
أي فجور في دعوة المفقرين لمقاطعة السلع والأسوق! وكأن هؤلاء مكتفون، أو كأن لديهم فسحة ترف استهلاكي مطلوب تقنينها؟.
وأي قفز وقح على الواقع الذي يشهد يومياً زج المزيد من الجائعين الذين لا يجدون ما يسدون به رمقهم ورمق أفراد أسرهم، في ظل جحيم السوق وحمى الأسعار التي فرضت سلفاً تخفيض معدلات الاستهلاك لدى الغالبية الساحقة من السوريين لحدودها الدنيا منذ سنين، وما زالت تفعل فعلها مطلع كل صباح على هؤلاء، في ظل تذبذب الأسعار المقترنة بسعر الدولار المتصاعد، وفي ظل تدني معدلات الأجور لدرجة انعدامها، مع الغياب غير المبرر للدولة عن كل ذلك، وبدون دعوات المقاطعة، القديمة والمستحدثة؟!.
فمثل هذه الدعوات بهذه الظروف ما هي إلا مساعٍ لخلط الأوراق كشكل من أشكال التعمية عن جوهر وأُس المشاكل والمعاناة التي يدفع ضريبتها المفقرون دون سواهم، بل ومن أجل كبح شكواهم ومحاولة إسكاتهم وتشتيت جهودهم، والأنكى تحميلهم المسؤولية عن موبقات السوق وربما البلد أيضاً!.
ولا شك أن من يقف خلف مثل هذه الدعوات للمقاطعة وأشباهها ليسوا فقراء الحال والمعدمين، برغم انجرار بعضهم لها، بل هي الشريحة الثرية الفاسدة والمغتنية والناهبة نفسها، بغية التعمية والتضليل عنها وعن دورها المشبوه والمدان، والأهم التعمية عن بعض الحلول الممكنة والمتاحة، وما تتطلبه من جهود للضغط من أجل تنفيذها بوجه هذه الطغمة التي استباحت الجيوب والحقوق، كما استباحت المصلحة الوطنية.
لمن يعمل السوق؟
من قال أن الأسواق لنا، ومن قال أن البضائع والسلع المعروضة فيها من أجل استهلاكنا نحن المفقرين والمتعبين فقط؟ كي نتوقع أنه من خلال مقاطعتنا لها أو لبعض موجوداتها نستطيع الضغط مثلاً من أجل تخفيض الأسعار فيها؟!
فالأسواق والسلع أصبحت حكراً على من يملكون المال والثروة غالباً، فالمولات ومراكز التسوق والمطاعم والملاهي وغيرها لم تُضخ فيها الاستثمارات كرمى عيون الغالبية من المفقرين، بل من أجل استقطاب شريحة الأغنياء والفاسدين، صغيرها وكبيرها، قديمها ومحدثيها، وتلبية متطلباتهم واحتياجاتهم، الضرورية والترّفية، اعتباراً من السيارات وليس انتهاءً بثمار البحر وفواكه المناطق الاستوائية، وتحقيق المزيد من الأرباح من خلالها، وهذه الشريحة غير معنية بتطبيق مثل هذه الدعوات على ذاتها طبعاً.
أما متطلبات واحتياجات المفقرين فهي وبرغم حجمها تعتبر «ع البيعة»، مع فارق النوعية والمواصفة طبعاً، حيث الغش والاستغلال في أبشع أشكاله، بما في ذلك الضار بالصحة.
ولم لا؟ فعيون الرقابة مغيبة وغائبة أيضاً، وشعارات السوق الرائجة المتمثلة بـ«العرض والطلب» و«تحرير الأسعار» تتسيد الحديث الرسمي وغير الرسمي تبريراً وتعمية عما يجري فيه، ولمصلحة من.
فأي وهمٍ يريدون الترويج له، وأي جهد مبدد هذا في تحويل معركة السوق والسلع وأسعارها والنهب الكبير لتصبح مثلاً بيننا وبين بائعي المفرق الصغار، رغم عدم نفي مسؤولية بعضهم، الموضوعين بالواجهة كـ«ممسحة للزفارة» المتفشية على أيدي من لا يرحم من كبار المتحكمين بالسوق وبضائعه وأسعاره.. تماماً مثل زجنا بمواجهة مع سائقي السرافيس على «الفراطة» والخمسين المعدنية المفقودة والورقية التي تزايد تلفها، أو مع بعضنا بسبب التزاحم ساعات الذروة في ظل نقص وسائط المواصلات، وغيرها من أساليب خلط الأوراق وتبديد الجهود.
فالسوق بكل ما فيه مع آلياته المتحكم بها يعمل من أجل تلبية متطلبات شريحة الأغنياء والمترفين بداية، ومن أجل مصلحتها فقط لا غير، فهي من تستثمر فيه وتديره، وهي من تتحكم به، وهي من تحصد أرباحه ومكاسبه، وكل الحديث عن الضغط عليه من قبل المفقرين ما هو إلا مساعٍ لذرِّ الرماد في العيون، ولتحميل هؤلاء مسؤولية ما يعيشونه من ويلات عبر السوق والمتحكمين به، أو سواه من أسباب منغصات العيش، وما أكثرها، ولا مانع لدى هؤلاء المتحكمين الكبار من أن تُغلق بعض المحال الصغيرة هنا وهناك، وهو ما بدأ يظهر، كقرابين إضافية على مذبح تمركز وتركز الثروة والربح.
«السكافي حافي»
في حديث مع صاحب أحد المحال الصغيرة في أحد الأحياء في دمشق شكى أن مبيعاته انخفضت كماً إلى النصف تقريباً عما كانت عليه قبل أيام فقط، بما في ذلك المنظفات، وذلك بسبب ارتفاعات الأسعار الكبيرة المتلاحقة، وبسبب عدم تمكن المواطنين من دفع فارق السعر على نفس الكميات المستهلكة من قبلهم كما كانوا عليه سابقاً، فاضطروا إلى تخفيض كمية مشترياتهم، وبالتالي معدلات استهلاكهم، مع ملاحظته أنّ هناك أسماء جدداً من أبناء حيه انضموا إلى دفتر الديون المفتوح لديه، علماً أن ذلك يسبب له خسارة مؤكدة، لكن «حق الجيرة» يفرض نفسه عليه، بحسب قوله.
كما أضاف إن تذبذب الأسعار لم يعد يومياً، بل أحياناً يطرأ تغيير على سعر بعض المواد عدة مرات في اليوم، مثل السكر والرز والزيوت والمعلبات وغيرها، وذلك ارتباطاً مع متغيرات الأسعار بحسب مستودعات الجملة، حيث يتكبد بعض الخسائر في هذه السلع عند طلبه لكميات منها في اليوم التالي، ناهيك عن حملات التموين التي تطاله دوناً عن مستودعات الجملة التي لا تعطيه فاتورة غالباً، شاكياً أن رأسماله المحدود بدأ يتآكل، مما اضطره إلى تخفيض كميات استجراره من السلع، أي فقدان جزء إضافي من أرباحه اليومية، وبالتالي تخفيض معدلات استهلاكه مدفوعاً إلى الفقر هو الآخر، برغم توفر السلع والمواد لديه، قائلاً عن نفسه: «السكافي حافي والحايك عريان».
وحول دعوات المقاطعة الأخيرة للسلع والسوق قال: «متل اللي عم يضحك ع حالو.. هلأ خبرتك عن وضعي.. صرت مقاطع حالي بحالي غصب عني الله وكيلك.. الله يعين العباد أحسن شي».
غياب الدولة
السوق متحكم بها سلفاً، بل زاد هذا التحكم أضعافاً مضاعفة عما كان عليه من خلال التخلي الرسمي عنه وعن أدواته التحكمية تحت الشعارات أعلاه وصولاً إلى التفلّت والانفلات بذريعة سعر الصرف وتذبذبه ارتفاعاً، حتى الأذرع التي كانت بيد الدولة على أنها أذرع «تدخل إيجابي» في السوق تم التخلي عنها تباعاً، وإن كان بشكل غير مباشر ونهائي حتى الآن.
فالسورية للتجارة مثلاً لم تعد بصالاتها ومنافذها إلا بوابات عبور إضافية في السوق للسلع والبضائع الموردة والمتحكم بها من قبل التجار ولمصلحتهم، نوعاً ومواصفة وسعراً وكماً، بما في ذلك السلع الأساسية التي ستدخل لاحقاً في سلة التوزيع «الذكي» باسم «الدعم» و«المستحقين» مطلع الشهر القادم.
والمؤسسة العامة للتجارة الخارجية، ومثيلاتها من الجهات الحكومية الأخرى، لم تعد تستورد مستلزماتها واحتياجاتها مباشرة وباسمها، بذريعة الحصار والعقوبات، بل عبر مناقصات لا تخرج من تحت عباءة هؤلاء المتحكمين الكبار بسلال استهلاكنا وحاجاتنا إجمالاً، من القمح للمحروقات للسلع الأساسية والأدوية و... بعد إضافة هوامش الربح والعمولات الإضافية الكبيرة بذريعة الحصار والعقوبات.
وقس على ذلك من أدوار لمؤسسات وجهات حكومية أخرى فقدت دورها، وأخلت الساحة لهذه الشريحة ولمصلحتها على حسابنا وعلى حساب الوطن والمصلحة الوطنية، وكل ذلك مبوب ومقونن ومشرعن رسمياً.
هل من حل؟
نعم هناك حل، ولعل ذلك يبدأ أولاً وبكل اختصار بأن تستعيد الدولة مهامها وواجباتها، وطبعاً لا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال تغيير بنية مهام وواجبات الدولة المرسومة لها عبر السياسات المقرة والمتبعة، بحيث تصبح لمصلحة الغالبية المسحوقة من السوريين، وليس لمصلحة النخبة الثرية وطغم النهب والفساد كما هو الحال، مع إلغاء كل الاستثناءات والامتيازات التي حظيت بها هذه الشريحة عبر القوانين والتشريعات والقرارات الرسمية، وما حظيت به من امتيازات إضافية خلال سني الحرب والأزمة وبذريعتها، سواء بشكل رسمي أو عبر الأشكال الملتوية.
فهل من حملة تدعو لاستعادة الدولة لدورها ومهامها وفقاً لهذا الشكل والمضمون وتضغط من أجل تحقيق ذلك، بدلاً من حملات التضليل الجارية؟.
وهل من حملة تدعو إلى ضرب مواقع الفساد والإفساد، وتحاسب الناهبين، كبارهم قبل صغارهم، عبر أشكال الرقابة الشعبية الحقيقية، بدلاً من محاولات خلط الأوراق؟.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 949