لنُطفشهم حتى آخر طبيب
بقينا نسمع طوال السنين الماضية، بعد 2011 وقبلها بكثير، عن التشكّي من هجرة العقول التي تستنزف المجتمع بنسيجه واقتصاده، وعن نوايا الحكومات، متشابهة السلوك والبرامج، في الحد منه عبر محاربة أسبابه، وقد وضعت الكثير من الدراسات الإحصائية العلمية بهذا الصدد، وما زالت، مع تسليط الأضواء عليها إعلامياً، لكننا لم نرَ سوى المزيد من السياسات الإفقارية التي تدفع بجميع مكونات رأس المال البشري الوطني إلى الحلم بالسفر منذ بداية حبوهم.
بهذا الصدد نستشهد بدراسة منشورة في «قاسيون» في تاريخ 6/5/2004، من قبل الباحث الاقتصادي عيسى مهنا، بعنوان «هجرة الكفاءات والعقول العربية- الفاقد الاقتصادي»، ومما ورد في متنها:
«خسرت الدول العربية علماء واختصاصيين بلغ عددهم 2,876 مليون كفاءة عربية على مدى 50 عاماً.. وتقدر تكلفة خسارة إنتاجيتهم في بلدانهم بمبلغ 477 مليار دولار.. بينما بلغت أرباح الدول المستقبلة لهذه الكفاءات نتيجة إنتاجيتهم وما وفرته من نفقات إعدادها بما يبلغ 3,625 ترليون دولار».
ولكم أن تتخيلوا ما وصلت إليه هذه الأرقام بعد أكثر من عقد من الزمن، مع جملة انعكاساتها السلبية العامة الأخرى، خاصة في ظل ظروف العقد الأخير المعقدة والمتشابكة في المنطقة.
ولأنّ الأطباء وأصحاب المهن الطبية يشكلون النسبة الأكبر من المهاجرين، فسنركز اليوم على هذه الشريحة محلياً والتي يتم تطفيشها، ظروفاً وعنوة، علماً أن تكاليف إعداد الفرد منها بحسب أرقام الدراسة السابقة في حينه تصل إلى 302 ألف دولار.
32 ألف عليها ضرايب
يعيش طلاب الطب ستّة أعوام جامعية يندم الكثيرين منهم خلالها بشكل شبه يومي على قرارهم بدخول هذا الفرع، والأسباب كثيرة: فمن حشوهم بالمعلومات النظرية، إلى حشرهم وإذلالهم في المدن الجامعية، إلى قيام بعض الدكاترة- المدرسين «المدعومين» بإجبارهم على شراء كتب ومطبوعات باهظة الثمن من تأليفهم، وصولاً إلى تكسير علاماتهم بغير وجه حق من قبل بعض الدكاترة- المدرِّسين «المدعومين أيضاً» الذين لا يلتزمون حتى بقوانين الجامعات نفسها، وليس نهاية بالتكاليف الباهظة التي ترهق كاهل ذوي هؤلاء طيلة سنوات دراستهم.
ثمّ بعد تخرجهم من الامتحان الوطني يصبحون أطباء مقيمين لمدة تتراوح بين 5 و7 أعوام أخرى للتخصص. يحصل الطالب المقيم خلالها على أجر مقابل عمله يبلغ 32 ألف ليرة سورية «أقل من 50 دولار»، ويتم اقتطاع ضرائب من هذا المبلغ تصل إلى 4 آلاف ليرة أيضاً.
الكفاءة والثالوث الغريب
يجد الأطباء المقيمون أنفسهم في مواجهة ثالوث غريب، يقول البعض بأنّه ابتكار محلي خالص. فبعد النجاح بالامتحان الوطني، يخضع أطباء المستقبل لمفاضلة تعتمد على معدّلات نجاحهم في الامتحان، ليتحدد بموجبها الاختصاص الذي سيدرسونه.
وبعد أن يتحدد الاختصاص يصبح المقيم إمّا تابعاً لوزارة الصحة ليتابع اختصاصه في مشافيها، وإمّا لوزارة الدفاع ومشافيها أو وزارة الداخلية، وإمّا لوزارة التعليم العالي ومشافيها. وبحسب هؤلاء: لا يحق لمن لم يتبع لوزارة التعليم العالي أن يصبح أكاديمياً وأن يدرّس أو يصبح باحثاً.
بالمقابل، تجدر الإشارة إلى أن أحد الأنظمة الأفضل التي يهاجر الأطباء لأجلها هي نظام الكفاءة، الذي يسمح لهم بدراسة الاختصاص الذي يريدون إن هم أثبتوا بعد عام من الدراسة كفاءتهم فيه وفق نظام تقييم أجدى من درجات الامتحان.
نقابة قاصرة
يدفع الطبيب المقيم الذي يتلقى أجراً قيمته 32 ألف ليرة قبل الضرائب، رسوماً لنقابة الأطباء تبلغ 36 ألف ليرة سورية سنوياً لقاء قبول انتسابه إليها. علماً أنّها لا تقدم له أيّة خدمة، ولا تدافع عن حقوقه، ولا تحاول دمقرطة المشافي التي يعمل فيها... هي باختصار كما وصفها زميل مقيم: «نقابة قاصرة ومقتصرة على النخبة».
آه عالامتياز!
ولأنّ المسؤولين الطبيين يلتزمون بأمانة بالنهج الحكومي الرّامي إلى تحميل الطبقات الضعيفة جميع التكاليف الممكنة، فقد خرج العقل الحكومي السوري باختراع سنة الامتياز.
فبعد أن ينتهي المقيم من فترة إقامته، ويكون قد أنهى الاختصاص المعادل للماجستير، لا يُسمح له بالبدء في العمل مباشرة، ولا في تحصيل خبرة حقيقية في مجاله، فسنة الامتياز تجبره على الخدمة كمشرف لمدة عام في نقطة تحددها له الجهات المسؤولة «وليس بنا حاجة للتطرق للوسائل (الخالية من الفساد) التي تجرى فيها التعيينات في هذه الجهات». وأثناء هذه الفترة لا يحصل الطبيب لا على إسكان ولا إطعام، ويبقى الأجر 32 ألف ليرة سورية مستمراً لمعيشته وحياته وضرورات «الشبرقة».
وكما يجمع طلاب الطب والمقيمون، فالمشرف هنا لا يشرف على شيء، بل يقوم بمهام لا علاقة لعمله فيها لا من قريب ولا من بعيد، «يلزقه» فيها شخصٌ أعلى منه مرتبة قد هرب منها من قبل.
حتّى نقتله استنزافاً
يعاني المقيم أثناء فترة إقامته من مناوبات لا تنتهي، فلا مدتها منطقية ولا هي تحدد بمرات معينة. فالطبيب المقيم يناوب لمدة تصل بشكل اعتيادي لـ 30 ساعة متواصلة وأكثر ربما، وهذا أمر ليس بنادر الحدوث، بغض النظر عن الإنهاك والكآبة التي يعانيها الطبيب المقيم، وكما علَّقت إحدى الصفحات على الأمر: «مناوبات مجانية وغير مأجورة، وربما غير معترف بها».
وإذا ما أردنا أن نقارن حالنا بحال بعض الدول، فسنختار دولة من الإقليم هي السعودية، حيث يمنع أن يناوب الطبيب أكثر من 28 ساعة متواصلة عدا حالة الطوارئ. ودولة من خارج الإقليم هي بريطانيا، حيث لا وجود لنظام مناوبات أساساً، فيؤدي المقيم وردية من أصل أربع ورديات يومية ويمضي بعدها إلى حياته، ويُسمح للمقيم أن يؤدي ورديتين متتاليتين لمرة واحدة شهرياً فقط.
اختراعات جديدة
عندما يحاول المسؤولون تقديم شيء جيد هو رفد المناطق البعيدة والنائية بالأطباء، فهم يقومون بذلك بالطريقة الخاطئة ويحمِّلون عبء القيام به للشرائح الخاطئة أيضاً وعلى حسابهم. فبدلاً من اعتماد نظام تأهيل كوادر طبية تكفي المناطق البعيدة، وإقرار خطط تنمية عادلة تجعل مشافيها ومستوصفاتها فاعلة أكثر، يمضون ويخرجون ما يسمى «قرار الفرز الربعي».
فوفقاً لهذا القرار يتم نقل الطبيب المقيم كلّ ثلاثة أشهر إلى محافظة ومنطقة جديدة، حيث نُقل عن وزير الصحة عبر بعض وسائل الإعلام أنّه: «لـن يكـون هناك ضمن مفاضلة الصحة شيء اسمه فرز دمشق فقط، بل ستُستبدل بالمنطقة الجنوبية»، وتعميماً على ذلك يمكن القول (المنطقة الوسطى- المنطقة الشرقية- المنطقة الساحلية- المنطقة الشمالية وهكذا)، ليتم من خلاله حرمان هؤلاء من أي نوع من الاستقرار، وتحويلهم إلى «بدو رحّل» كلّ ثلاثة أشهر يمسكون بأوراقهم التي يركضون فيها بين مكاتب الإداريين الذين لا يحملون لهم الود أصلاً. وكي يرينا المُشرع بأنّه لم يترك ثغرة في هذا القرار، فقد أعلن بأنّهُ لا أحد يستثنى من هذا القرار، لا المتزوجون ولا الحوامل ولا الأمهات..
وعلاوة على حرمان هؤلاء من الراحة والاستقرار، يتم حرمانهم من تحصيل الخبرة والفائدة العلمية ضمن اختصاصهم، والسبب الأساس في هذا أنّ المستشفيات البعيدة والنائية غالباً ما تكون مجهزة بتجهيزات ولوازم خدمية وليست علمية، وهذا من مساوئ تنظيم المشافي عموماً، حيث يتركز ذلك في بعض مشافي دمشق غالباً وفقط، كما هي حال تركز السلطة وتمركز الثروة فيها.
فلماذا يتم تحميل الأطباء المقيمين مسؤولية «أخطاء» لا ذنب لهم فيها؟.
مشرفون يحتاجون إلى مشرفين
بعد أن ينتهي الطبيب من استغلاله في مرحلة الامتياز، يرتفع تحدي الاستغلال الذي يجب على الوزارات والمستشفيات المسؤولة أن تحققه كي تنجو ضمن هكذا منظومة، يتم البحث عن مشرفين يقبلون بأدنى الأجور لأنّهم لا يملكون خياراً غير ذلك، ومن الذي قد يقبل بأجر 45 ألف ليرة سورية سوى خريج جديد!.
ولهذا تُعين المستشفيات مشرفين من الخريجين الجدد، رغم أنّ عمل المشرفين يفترض أطباء ذوي خبرة ممن يمكنهم متابعة عمل المقيمين لتعليمهم ومنحهم المهارة اللازمة ليتمكنوا من التقدُّم الطبي العلمي المزود بالخبرة.
ولشرح مدى مأساة الأمر، يمكننا أن ننظر إلى ما قاله زميل مقيم: «بقيت في إحدى العمليات من الساعة 8,30 صباحاً وحتى الساعة 6 مساءً دون انقطاع، لأنّ المشرف على العملية لم يكن يعرف ما يجري، وكان يعتمد على التكهن ليحدد ما يواجهنا».
والنتيجة، إنّ ما يتم توفيره في أجور المشرفين ينعكس بشكل مباشر على مدى جودة التعليم الطبي، وعلى تأهيل كوادر يحتاجها المرضى والقطاع الصحي بشكل عام، لكن بالنسبة للمسؤولين فإنّ توفيراً في أجور المشرفين أدعى وأهم..
ما سبق، غيض من فيض بعض الانعكاسات السلبية للسياسات المتبعة على جزء من قطاع واحد فقط، فهل لنا بعد كلّ هذا، وغيره الكثير، أن نتساءل عن نقص أعداد الأطباء بشكل خاص، وعن أسباب هجرة العقول والكفاءات بشكل عام؟ذ
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 940