إعادة الإعمار تفرض جهاز دولة قوي وكفؤ
تتحدث الحكومة مع كل طالعة ضوء تقريباً عن مرحلة إعادة الاعمار، وهي على ذلك تمهد افتراضاً لدور الدولة وواجباتها تجاه الوطن والمواطن من خلال ما تعرضه من سياسات ورؤى وبرامج تتناول العناوين الكبيرة والصغيرة المرتبطة بهذا العنوان العريض، وما تقوم بتشريعه عبر جملة القوانين والقرارات التي تصدرها.
واقع الحال يقول: إن جملة المهام (القريبة والبعيدة) المطلوب إنجازها على هذا الصعيد كبيرة ومتشعبة جداً، وهي تحتاج لجهاز دولة كبير كفوء وقادر ومتمكن، من أجل وضع الخطط المبوبة تفصيلاً وإقرارها ثم وضعها بالتنفيذ المترافق مع المراقبة والمتابعة، بالإضافة طبعاً إلى المهام والمسؤوليات الموكلة لهذا الجهاز سلفاً، بالوقت الذي نرى فيه أنَّ واقع جهاز الدولة ومؤسساتها يشوبه الكثير من الضعف والترهُّل والتراجع بسبب السياسات الحكومية نفسها، بالإضافة إلى أن غالبية ما تم تشريعه من قوانين، وما تم إصداره من قرارات خلال السنوات الماضية، تصب باتجاه تعزيز وتكريس دور القطاع الخاص والاستثماري (المحلي والدولي) على حساب دور الدولة.
مثال عن دور الدولة الافتراضي
على سبيل المثال: أقرت الحكومة بتاريخ 8/2/2018 «البرنامج الوطني التنموي لـ سورية ما بعد الحرب»، وبحسب ما ورد عن البرنامج بأنه: «من أجل تأطير جهود التخطيط وإدارة الأزمة التي تمر بها سورية منذ أكثر من سبع سنوات وتبعاتها على الصعد كافة، وبلورة رؤى إعادة الإعمار ليس بالبعد الاقتصادي فقط، وإنما بالبعد التنموي الشامل».
وقد تضمن البرنامج مجموعة من الأهداف العامة بحسب ما ورد عبر الموقع الحكومي، ومنها:
التأكيد على الملكية الوطنية لمستقبل سورية والتخطيط له، وعلى استمرارية مؤسسات الدولة السورية واضطلاعها بمسؤولياتها، وقدرتها على توجيه مواردها وإمكاناتها على النحو الذي يحقق مصالحها الوطنية بطريقة علمية ومنهجية.
وقد تم تقسيم البرنامج إلى أربع مراحل هي: «الإغاثة والاستجابة للاحتياجات، التعافي، الانتعاش، الاستدامة التنموية».
سياسات معيقة
بعيداً عن الخوض بتفاصيل البرنامج أعلاه بما له وما عليه من ملاحظات، فهو لا شك وفقاً للأهداف المرسومة فيه، بحاجة إلى جهاز دولة كبير وقادر، بالحد الأدنى من أجل تنفيذ الهدف الأول الموضوع والمقر بمتنه أعلاه.
والسؤال الذي يتبادر للأذهان: كيف يمكن لجهاز الدولة ومؤسساتها القيام بتنفيذ هذه الأهداف والمهام في ظل استمرار العمل بنفس السياسات التي تحول دون تحقيق ذلك؟.
وتفصيلاً بهذا العنوان، يمكن الاستشهاد بالسياسات الأجرية، وسياسات التعيين، والتمويل، والمالية والضريبية، وجملة السياسات الليبرالية المحابية لمصلحة شريحة أصحاب الأرباح على حساب شريحة أصحاب الأجور، وعلى حساب الاقتصاد الوطني والمصلحة الوطنية، والتي بمجملها تعتبر عائقاً أمام اضطلاع مؤسسات الدولة بمسؤولياتها وتوجيه مواردها وإمكاناتها على النحو الذي يحقق مصالحها الوطنية.
السياسات الأجرية الطاردة
السياسات الأجرية المعمول بها تعتبر سياسات طاردة لقوة العمل في مؤسسات وقطاع الدولة، والدليل هو النزف الجاري والمستمر فيها، وخاصة للكفاءات والخبرات، وهي حالة موجودة منذ ما قبل سنوات الحرب والأزمة وقد تفاقمت خلالها، والسبب الرئيس هو واقع الأجور المتدنية بالمقارنة مع واقع الأسعار ومتطلبات واحتياجات إعادة إنتاج قوة العمل.
بالمقابل، لا بدَّ من الإشارة إلى أن الحكومة ومن خلال معرفتها ويقينها بأن سياساتها الأجرية مجحفة، وغير عادلة وتعتبر طاردة لقوة العمل، دون الاعتراف صراحة بكل ذلك طبعاً، تراها تسعى لتقنن من حالة النزف الجارية عبر إصدارها لبعض القرارات المتعلقة بالاستقالات أو بالإجازات أو بالانقطاع عن العمل مثلاً، بالإضافة إلى تأكيدها على ما تنص عليه القوانين من عقوبات بهذا الشأن، أي: أنها وبدلاً من العمل على تعديل السياسات الأجرية لتصبح مستقطبة لقوة العمل عبر منحها حقها الطبيعي بالأجر العادل القادر على إعادة إنتاجها، تقوم بإجبار العاملين على الاستمرار بعملهم رغماً عنهم بقوة القانون، ولكم أن تتخيلوا ما ينجم عن ذلك من مشاكل وترهل وضياع للمسؤوليات، بالإضافة إلى ما هو قائم منها سلفاً، ناهيك عن كل المظاهر والظواهر السلبية الأخرى المرتبطة بذلك، مثل: الرشوة التي يجري تعميمها وشرعنتها تحت مسميات مختلفة للتغطية على الفساد الكبير القائم المستنزف للإمكانات، ولعلنا بهذا الصدد نستشهد مثلاً بما نسب عن لسان مدير تموين دمشق مؤخراً بحسب بعض وسائل الإعلام: «ليس هناك في قانون التموين ما يمنع الإكرامية!».
سياسات التعيين
الحديث عن السياسات الأجرية وواقع النزف بقوة العمل يوصلنا للحديث عن سياسات التعيين، والتي من المفترض أن تقوم بتأمين النقص بالعمالة المستنزفة بالحد الأدنى.
فواقع الحال يقول: إن تلك السياسات مرتبطة بالملاكات العددية، والمبوبة بحسب الكفاءات والفئات وأجور بدء التعيين، وبحسب الأنظمة الداخلية المعتمدة بكل جهة، والتي تجري عبر جملة من الإجراءات (الإعلان- تقديم الوثائق- المسابقات- الإعلان عن الناجحين- الإعلان عن المقبولين- استكمال الوثائق- إصدار قرارات التعيين- المباشرة)، تعتبر غير مستقطبة أيضاً، ناهيك عن أن الموافقة على ملء الشواغر بحاجة للموافقة المسبقة أصلاً، كما أن سياسات إعادة الهيكلة والدمج وغيرها ساهمت بتخفيض الملاكات العددية في بعض القطاعات التي طالتها، وفي إزاحة أو إنهاء بعضها الآخر.
فإذا تم غض الطرف عن مسألة أجور بدء التعيين المتدنية جداً، ومع الاحتفاظ بحق وكرامة الباحثين عن فرصة عمل في ظل واقع البطالة والفقر، فإن من يتقدم للعمل في القطاع الحكومي (الإداري والإنتاجي) هم اليائسين من توفر فرص عمل في القطاعات الأخرى، وذلك ليس بسبب تدني الأجور فقط، بل بسبب جملة القوانين التي تحكم الوظيفة العامة في ظل حال تفشي الظواهر السلبية (الفساد- المحسوبية والوساطة- عدم تقدير الكفاءات...) الطاردة لقوة العمل وللكفاءات هي الأخرى.
فإذا كان هذا هو حال ملف العاملين وواقعهم في جهاز الدولة، والذين من المفترض أن تناط بهم المهام والمسؤوليات الجسام المنتصبة أمام هذا الجهاز بالمرحلة الراهنة وفي ملف إعادة الإعمار، فكيف هو الحال بالنسبة لبقية الملفات الكثيرة الأخرى المرتبطة بعمل هذا الجهاز في ظل استمرار العمل في نفس السياسات المعتمدة؟.
ملف سيادي وتناقض حكومي
سيستمر الحديث عن ملف إعادة الإعمار مع كل طالعة ضوء، ومع كل متغير صغير أو كبير، ومن قبل جميع القوى الفاعلة في الأزمة السورية، محلياً وإقليمياً ودولياً، وكل حسب رؤاها، وبما ينسجم مع تصوراتها عن حجمها ووزنها ودورها، وبما يتوافق مع مصالحها الآنية قصيرة المدى والإستراتيجية بعيدة المدى، بما في ذلك واقع الاستثمار السياسي بعمقه، والأهم من قبل السوريين المتضررين الذين دفعوا ضريبة سنوات الحرب والأزمة موتاً وتشرداً ونزوحاً ولجوءاً ودماراً وخسائرً بالممتلكات، كونها بالنسبة إليهم تعتبر بالتوازي مع الحل السياسي المنشود بوابة العبور نحو الاستقرار واستعادة بعض الحقوق، وبهذا المعنى فإن إعادة الاعمار ليست قضية اقتصادية أو اجتماعية أو إنسانية، بل قضية سياسية سيادية بامتياز.
وعلى اعتبار أن الملف سيادي، فإن ما يعنينا من أمر هو ما ترسمه وتمهد له الحكومة من دور للدولة في هذه المرحلة وما تضمنه من حقوق لمواطنيها، أكثر بكثير مما تفترضه القوى الفاعلة، محلياً وإقليمياً ودولياً، وفقاً لتصوراتها وأهدافها.
وبهذا الصدد لا يمكن غضُّ الطرف عن جوهر السياسات التي تعتمدها الحكومة بجوهرها الليبرالي المحابي لمصالح كبار أصحاب الثروة والمستثمرين والفاسدين، من خلال جملة ما تقوننه وتُشرّعه وتصدره من قرارات بهذا الشأن، فغالبية هؤلاء لا يمكن وضعهم إلا ضمن القوى الفاعلة في الأزمة السورية والمستفيدين منها عملياً، كما من تعقيداتها بغاية إطالة عمرها ربما، على حساب المواطنين والمصلحة الوطنية، وبالتالي، ربما من الواجب الوقوف عند بعض المفردات في السياسات الحكومية المتبعة والمقرة تحت هذا العنوان، من أجل استعادة دور الدولة الحقيقي في هذا الملف السيادي، وبما يؤمّن ويضمن الحقوق للسوريين.
فما جرى ويجري عملياً من خلال السياسات الحكومية المتبعة هو تحييد وتهميش دور الدولة بالحياة الاقتصادية الاجتماعية وإبعادها عنه، بالتوازي مع زيادة وزن ودور شريحة كبار المستثمرين والفاسدين وتجار الحرب والأزمة بدلاً عنها، بل وتكريس هذه الزيادة في الوزن والأدوار من خلال التشريعات والقوانين التي صدرت خلال السنوات الماضية، وما هو قيد الصدور منها، مثل: قانون التطوير العقاري، والقانون 10 الخاص بالاستثمار في المناطق التنظيمية، ومشروع قانون الاستثمار بنسخته الجديدة المعدلة، وغيرها الكثير من القوانين والقرارات الأخرى، ناهيك عن جملة السياسات المتبعة ونتائجها وانعكاساتها السلبية على الواقع الاقتصادي الاجتماعي.
أما التناقض بما يجري طرحه حكومياً، فهو الحديث عن دور الدولة في ظل حال الإضعاف لها ولمؤسساتها وأدواتها، وبالتالي، لوزنها الذي يُفتَرَض أن يكون معبراً عن السيادة
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 926