الأميّة نبتٌ خبيثٌ يجب مكافحته
الأميّة تنتشر في الجيل كما تنتشر النار في الهشيم، فكيف إذا انتشرت الأميّة في مؤسسات يرجى أن يكون الهدف منها التعليم والقضاء على الأميّة؟!
ربما لم يعد خافياً على أحد واقع السياسات التعليمية في البلاد ونتائجها، ليس على مستوى تراجع دور التعليم الحكومي المجاني، بمقابل فتح بوابات التعليم الخاص على مصراعيها، ولا على مستوى تراجع هيبة المعلمين ودورهم، وتدهور مستوى التعليم وانخفاض مستواه على صعيد الكفاءات العلمية، بل لعل الأخطر هو نشوء ظاهرة الأمية داخل الصفوف المدرسية، وانعكاسات ذلك المستقبلية على الصعيد الاجتماعي والتربوي والعلمي والثقافي والمعرفي في المجتمع.
الأميّة في حلقات التعليم الأساسي
لم تشهد المدارس في سورية في جميع محافظاتها ارتفاعاً في نسبة الأميّة إلى قبيل سنوات الحرب والأزمة وخلالها، وكان ذلك بالتزامن مع التعديلات المتغيرة والمتتالية للمناهج الدراسية ابتداءً من الصف الأول وانتهاءً بالمرحلة الثانوية.
فإذا كانت الحرب والأزمة سبباً في نشوء ظاهرة الأميّة في المجتمع وتوسعها بعد أن كانت قيد الإغلاق والانتهاء منها كملفٍ وطني هامٍ، فإن لانتشارها داخل المدارس خلال السنوات القليلة الماضية أسباباً أخرى عديدة.
توقفنا لنستطلع عن نسبة الأميّة في بعض مدارس الحلقة الأولى والثانية من التعليم الأساسي فوجدنا أن نسبة ما يمكن اعتباره أمياً بين التلاميذ تتراوح بين 20- 40% في بعض الصفوف، وأحياناً أكثر من ذلك، وذلك بحسب توصيف بعض المعلمين.
ولا نقصد بالأميّة أن الطالب لا يستطيع أن يقرأ الحروف ويكتبها فقط، ولكن حتى الطلاب الذين يستطيعون ذلك فإنهم على حالةٍ من الضعف لدرجة أنهم لا يستطيعون فهم العبارة بعد تهجئتها لضعف الملكة اللغوية لديهم.
من المسؤول عن أميّة أطفالنا؟
إحدى المعلمات في الصف الثاني تشكو الكمّ الكبير في المناهج التي تحتاج إلى وسائل تكنولوجية وفنية تساعد الطلاب على الفهم، فالشرخ واضح بين الكتاب بمنهجه، وبين الواقع الذي يفتقر إلى أهم الوسائل المرئية والسمعية المفترض توفرها معه، وإن سعى مدير المدرسة إلى تأمين بعضها فإنها لا تصل إلّا في وقتٍ متأخرٍ من العام الدراسي!.
عدا عن اكتظاظ الشعب بأعداد الطلاب، الذي لا يمكّن المعلمين من المتابعة والملاحظة والتطوير، والاعتماد في ذلك على الأهل الذين ترهق كواهلهم متطلبات العيش الضروري، فيقع الطالب بين فك المناهج وضعف الوسائل وفك عجز الأمّ عن متابعة طفلها، والنتيجة تراكم الضعف وتفاقمه.
ترميم فجوة أم إجراء إداري دون جدوى؟
لاحظنا خلال السنوات الأزمة والحرب دعوات وزارة التربية إلى إلحاق طلاب التعليم الأساسي بحلقتيه الأولى والثانية بمدارسهم، بغض النظر عن الانقطاع ومدته، وبرغم أهميه وضرورة هذا التوجه، إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه استناداً للوقائع الملموسة: هل الهدف من ذلك حماية هؤلاء من الأميّة وترميم الفجوة التعليمية لديهم، أم إخراجهم من مرحلة التعليم الأساسي كما دخلوا فيها؟
أحد المدرسين في إحدى مدارس التعليم الأساسي في دمشق يكشف عن مستوى أحد الصفوف التي يدرسها، بأنّ أكثر من خمسة عشر طالباً من أصل أربعين لا يستطيعون القراءة والكتابة بشكل يؤهلهم لدراسة المقرر في الصف التاسع، أي: ما نسبته بحدود 37%، إذ لا يسمح بأن يرسب الطالب في المرحلة أكثر من عامين وبعدها يُنقل بشكل آلي إلى السنة التالية، وهكذا وصولاً لامتحان الشهادة الإعدادية التي لن يستطيعوا تجاوزه بحال من الأحوال.
والمنهاج /ب/ برغم أهميته وضرورته كفكرة، إلا أنه يعتبر خطوةً إدارية تكاد تخلو من الواقعية في تقييم مستوى الطالب، فكيف بتطوير معارفه ومهاراته.
فالواقع يفرض وجود خطةٍ تنقذ أولئك التلاميذ من خطر الضعف من خلال حسن تأهيلهم، وهذه الخطة يجب أن تكون استثنائية تناسب استثنائية الظرف الراهن، لا أن تكون شكلية تحشد عدد الطلاب في المدارس بلا نتائج ترجى عملياً!.
إلزامية تعليم مع إلزامية العمل!
الواقع المعيشي للأسرة السورية في ظل حال التدهور والتراجع والعوز لا تمنع الأبوين من متابعة أطفالهم فقط، وإنما أيضاً لا تسمح لأولئك الأطفال تفريغ جزءٍ من وقتهم لوظائفهم ودراستهم.
فبحسب أحد المدرسين يوجد في كل صف في الحلقة الثانية في المدرسة التي يعمل فيها، مالا يقل عن عشرين طالباً يعملون في مهنٍ شتى وأعمالٍ مختلفة بعد الدوام المدرسي، حيث لا تسمح لهم تلك الأعمال بأن يأووا إلى بيوتهم قبل الساعة الثامنة مساءً.
فأية نتيجة نرجو ممّن غلبه النعاس والتعب، وصعوبة المناهج، وضعف الأداء من بعض المدرسين، واكتظاظ الشعب؟!
السياسات والنَّبْتُ الخبيث
ألا تكفي هذه الأسباب، وغيرها الكثير، لأن تُنبت شجرة الأميّة الخبيثة؟ أليسَ حري بالحكومة عامة وبوزارة التربية خاصة أن تجتث جذورها بدلاً من قرارات تشدد العقوبات على المدرسين مثلاً، أو ملاحقة نتائج الكارثة هامشياً بدلاً من أسبابها؟
أما آن الأوان ليعلم المسؤولون أنّ أولادنا أمانةً ومسؤولية في أعناق من بيدهم زمام الأمور؟
ربما الأمر لا يقتصر على السياسات التعليمية فقط، بل على مجمل السياسات المتبعة، التي لم ولن تُنبت إلّا كلّ خبيث!