رغيف الخبز وحلقات الفساد!
حلقات الفساد المرتبطة بإنتاج رغيف الخبز المدعوم لم تنشأ مؤخراً، بل هي قديمة بقدمه، وقد كبرت وتعملقت على حسابه وعلى حساب المواطن، كما على حساب الخزينة العامة، وبرغم كل الإجراءات المعلنة عن المتابعة والرقابة والضبط ما زالت تلك الحلقات تحافظ على حصتها من النهب، بدليل واقع الرغيف والأزمات المفتعلة باسمه.
فعند كل إجراء رسمي يتعلق برغيف الخبز، سواء على مستوى الإعلان عن تشديد الرقابة، أو على مستوى تعديل مخصصات الدقيق، أو على مستوى إعادة حساب كميات مستلزمات إنتاجه، بل وحتى في تعديل سعره ارتفاعاً، أو غيرها من الإجراءات، يتم افتعال أزمة مرافقة، حيث تسوء مواصفات الرغيف أكثر مما هي عليه، وتتزايد شدة الازدحام على الأفران، ويرتفع سعر ربطة الخبز في السوق السوداء، وهكذا.. في ردة فعل أصبحت مكررة وممجوجة، تؤكد على وجود شبكة فاعلة ومستفيدة من هذه الأزمات، كما هي مستفيدة من واقع الرغيف ومن الاتجار بمكونات إنتاجه المدعومة.
ضوابط كثيرة وواقع سيّء
كثيرة هي الضوابط المتعلقة والمرتبطة برغيف الخبز، اعتباراً من المواصفة والجودة، مروراً بالوزن والسعر، وليس انتهاءً بالكميات المخصصة من الدقيق التمويني وسوء التصرف بها، وكل من هذه الضوابط لها تبويباتها المنصوص عليها بموجب القانون والتعليمات والقرارات الناظمة، والتي تفترض متابعتها من أجل منع العبث برغيف الخبز، وضبط المخالفات عند وقوعها أو التبليغ عنها، وتنظيم الضبط المناسب بها حسب نوعها.
الضوابط الكثيرة المتعلقة بهذا الشأن لا ترتبط فقط بموضوعة حماية المستهلك ناحية توفير المادة باعتبارها القوت اليومي، أو ناحية المواصفة والجودة والوزن والسعر كأية مادة أو سلعة أخرى في السوق، بل لها ارتباط أكبر بموضوعة حفظ المال العام كون الرغيف ومستلزمات إنتاجه مدعومة، وهذا الدعم لا يقتصر على فارق سعر الدقيق التمويني المخصص لهذا الرغيف اعتباراً من القمح كمادة أولية، سواء كان منتجاً محلياً أو مستورداً، بل على مخصصات المازوت والخميرة لكل فرن أيضاً، سواء كان عاماً أو خاصاً.
ومع ذلك، وبرغم كل هذه الضوابط فإن واقع الرغيف ليس بخير، والشكاوى المتعلقة به كثيرة، اعتباراً من جودته ومواصفاته، مروراً بسعره ووزنه، والأهم بتوفره وطغيان السوق السوداء بعمقعه وعلى هامشه، مع الأزمات المفتعلة باسمه بين الحين والآخر.
ربح ومزيد من التكسب الكبير
واقع الحال يقول: إن العمل بإنتاج رغيف الخبز هو فرصة مثلى للتربح والتكسب، بغضّ النظر عن كل ما يمكن أن يقال عكس ذلك، باعتباره سلعة منتجة ومسوقة بالكامل ولا توالف حقيقية فيها، وخاصة مع فرص الربح الإضافية المتمثلة بتهريب وبيع الدقيق التمويني المدعوم في السوق السوداء، مع ما يرافقه من هوامش ربح أخرى مرتبطة بالمازوت المدعوم أيضاً.
على سبيل المثال: إن كيس الدقيق التمويني البالغ وزنه 50 كغ، سعره الرسمي المدعوم بحدود 1000 ليرة، بينما يباع في السوق السوداء تهريباً بحدود 10000 ليرة، أي: بفارق بحدود 9000 ليرة لكل كيس، باعتبار أن كيلو الطحين الإكسترا، القريب بمواصفاته مع مواصفات الدقيق التمويني، يتجاوز الـ 200 ليرة، والزيرو يتجاوز الـ 250 ليرة، وهو على ذلك يشكل مصدر ربح كبير جداً يتم تقاسمه بين حلقات المنتفعين والفاسدين، بالإضافة إلى الأرباح المرتبطة بالمازوت المخصص بحسب الكمية المهربة من الدقيق كونها لم تُخبز، حيث يحسب ليتر المازوت للأفران بسعر 130 ليرة بينما سعره في السوق السوداء يتجاوز الـ 300 ليرة، وخاصة في فصل الشتاء، ليأت بعد كل ذلك كميات الخبز ذات الجودة والمواصفة الرديئة التي لا يمكن استهلاكها، لتصبح مصدر ربح إضافي عبر بيعها كعلف للحيوانات، أيضاً بسعر مرتفع.
وبحسبة تقريبية بسيطة، إن 10 أكياس من الدقيق التمويني المهرب إلى السوق السوداء تعني في حسابات الربح الشهرية مبلغاً يتجاوز 300000 ليرة مع المكونات الأخرى، ولكم أن تتخيلوا ما يمكن أن تستقطبه تلك التجارة السوداء من حلقات فساد على هامشها، وعلى حساب المواطنين والخزينة العامة، ولعل الأمر لا يقتصر بهذا الجانب على بعض الأفران الخاصة أو الاحتياطية كبؤرة لنشاط عمليات تهريب الدقيق التمويني للسوق السوداء، بل لعل الأهم هي بؤرة المطاحن نفسها، عامة أو خاصة، ناهيك عن مدخلات هذه المطاحن من القمح المدعوم أيضاً، وما يمكن أن يقال حيال هوامش التكسب منها، مع عدم إغفال هوامش الربح من صفقات القمح السنوية نفسها أيضاً.
فمئات مليارات الدعم السنوية باسم رغيف الخبز لا بد أن تفتح شهية العديد من حلقات الفساد والاستفادة كي تتناهب حصة مجزية منها تقاسماً فيما بينها.
على حساب المواطن
والمؤسف، أن إجراءات ضبط الدقيق المعد للتهريب إلى السوق السوداء تقف عند حدود تنظيم الضبط بالكميات المشكوك بها مع إجراءات التحليل لعينات منها من أجل التأكد من كون الدقيق تموينياً فعلاً، ليصار إلى تبويب نوع المخالفة وتنظيمها استناداً إلى ذلك، والتي تقف عند هذه الحدود غالباً، مع الكثير من التهليل الإعلامي المصاحب لعمليات الضبط تلك، دون استمرار المتابعة لمعرفة الشبكة العاملة بهذه المادة المدعومة والمتكسبة منها، من أجل محاسبتها وتجريمها، ليس لكون الخبز قوت المواطن اليومي فقط، بل لكون المادة مدعومة وترتبط بالمال العام.
أما المؤسف أكثر فهو: أنّ إجراءات الضبط والمخالفة عندما ترتبط بأحد الأفران يرافقها إغلاق هذا الفرن المخالف لمدة من الزمن، ما يعني أن العقوبة المفروضة بحق المخالف يدفع ضريبتها المواطنون أيضاً، حيث يضطرون للجوء للباعة وللسوق السوداء، أو للخبز السياحي، مع زيادة الضغط على الفرن الأقرب في المنطقة، ما يعني مزيداً من الازدحام عليه، ومزيداً من هامش الوقت المهدور على طوابير الانتظار والتعب المرافق لها، ناهيك عن فرص التكسب على هامش هذا الازدحام التي يعمل عليها الشقيعة والبائعين أمام الأفران، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مخصصات الفرن المغلق يتم تحويلها عادة لأقرب فرن في منطقته من أجل تأمين حاجة المواطنين فيها خلال فترة الإغلاق، ما يعني إمكانية الاستفادة أكثر من هذه المخصصات الإضافية، خاصة إذا علمنا أن ساعات العمل والإنتاج لا تزيد في هذه الحالة، أو يتم الالتفاف عليها غالباً.
تخفيض الدعم مستمر
أما الأكثر أسفاً من كل ذلك فهو: أن الحكومة ووزارة حماية المستهلك، وبدلاً من العمل الجاد من أجل منع الفساد بحلقاته العاملة على هامش دعم رغيف الخبز التمويني، تقوم بين الحين والآخر برفع سعره، ما يعني تخفيض الدعم، أي: مزيد من الضغط على المواطنين ومعيشتهم.
فقد تم رفع سعر ربطة الخبز خلال السنوات الماضية ثلاث مرات اعتباراً من عام 2013، حيث كانت 15 ليرة للربطة، ثم أصبحت 25 ليرة، وصولاً لـ 50 ليرة الآن، بالإضافة إلى تخفيض وزنها، ما يعني أن تخفيض الدعم على المادة مرّ بأربعة مراحل حتى الآن، وكل ذلك على حساب المواطن، مع الكثير من الحديث عن الدعم والمليارات المرصودة والمصروفة عليه سنوياً، فيما تنعم حلقات الفساد على حسابه.
والسؤال الذي يفرض نفسه بعد كل ذلك: هل العدادة الإلكترونية للأرغفة المنتجة في الأفران هي الحل بالنسبة لهذا الملف الهام والكبير والمتشعب؟