الدولة الحديثة كسلطة مطلقة للبرجوازية.. دور السلطتين التشريعية والتنفيذية في إحكام هذه السلطة
لا تزال الدولة الحديثة هي السلطة المطلقة للطبقة البرجوازية على سائر الطبقات الأخرى في المجتمع، أما مصطلحاتها في الثروة الوطنية ورعايتها لها فهي مصطلحات منافقة، إذ أن الدولة البرجوازية هي وسيلة إثراء لهذه الطبقة، وموقعها في علاقات الإنتاج يتيح لها تشكيل البنى الفوقية السياسية والحقوقية والفلسفية والدينية.. في المجتمع، حيث يجري تشكيل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية تحت رعايتها بما يضمن استقرار سيطرتها، وإعادة سيطرتها في ظروف أزماتها.
هذا ما سنحاول البحث فيه في مقالنا اليوم.
ظروف الثورة المضادة:
إن مقدمة أي تحرك ثوري في التاريخ الحديث هَدَف إلى توسيع دائرة المتمتعين بالامتيازات السياسية بما يعنيه ضمناً ضرب الامتيازات الاقتصادية لمحتكريها. غير أن عدم بلوغ الطبقات الشعبية الثائرة الحد المطلوب من الوعي العلمي لتحقيق جمهوريتها الاجتماعية، وفشل القوى الثورية وغيابها عن التزاماتها تجاه طبقاتها، وركونها إلى الاعتقاد أن التغيير طالما بدأ، فإن نتائجه ستسقط بارتياح في حضنها، أتاح للبرجوازيات إعادة إطباق هيمنتها على المجتمع، بل وتطوير أدوات هذه الهيمنة.
أثبتت الوقائع التاريخية، أن قوى المجتمع القديم لن تسلّم بيسرٍ أدوات سيطرتها القمعية المباشرة والمدنية، وأنها لم تفقد القدرة على إعادة تنظيم نفسها، وأنها قادرة على إعادة كسب تأييد الطبقات الشعبية المتضررة وجودياً منها، واستقطاب البرجوزايات الصغيرة لصالحها، بما يعنيه من إقصاء القادة الحقيقيين للتحركات الثورية عن المشهد السياسي. الأمر الذي أدى ويؤدي حتى الآن إلى إعادة انتخاب هذه البرجوزاية ذاتها في المراحل الانتقاليةـ أي: مراحل نشوئها وأزماتها على حد سواءـ ومنحها الدور الرئيس في مسرح العملية السياسية القادمة.
وهي إضافةً إلى توحدها في ظروف الأزمات العاصفة في مواجهة القوى الثورية، فإنها تستعين لأغراض المواجهة بتأليف فضاء انتقالي من القوى المعترف بها رسمياً كمعارضة في النظام القديم، نظامهاـ والتي تستند في شعبيتها فقط على عدائها الظاهر والمنافق لأشكال الفساد والسلطة المطلقة، أو أنها تشكِّل هذه المعارضة خلال المراحل الانتقالية. وهذه المعارضة بالتحديد تحظى بتأييد البرجوازيات الكبيرة بسبب سهولة استمالتها حتى من ممول واحد فقط، وافتقادها لخطط التغيير السياسي الجذري، وهجومها الدائم والممنهج على القوى الثورية الشيوعية والاشتراكية واليسارية، وهو ما يرفع من نسب تشكيلها لأحزاب وائتلافات ممثلة سياسياً في المراحل الانتقالية، بما يتيح أغلبية مريحة لقوى العالم القديم في جميع اللجان الانتقالية المهيئة للعالم الحديث! مما يضمن تشكيل جبهة واسعة متينة مواجِهة لقوى التغيير الجذري. يجري كل ذلك من واقع كون البرجوازية تتمتع بالمرونة اللازمة للدفاع عن نفسها لتغلغلها داخل السلطات الثلاث المذكورة أعلاه، بعكس القوى الثورية التي لم تطأها بعد، والتي يجري تصفيتها وتحييدها كأهم خطوة على طريق الثورة المضادة.
إذاً، البرجوازية وصلت وتصل إلى الحكم من جديد على ظهر انتفاضات وثورات الطبقات الشعبية التي قُمعت وتُقمَع بالعنف، أي: أن البرجوازية قامت وتقوم بالثورة المضادة!
تعديل الدستور
في ظل الثورة المضادة:
إن أحد أهم ركائز الثورة المضادة هو (تعديل) الدستور من قبل لجان مؤلفة من خليط القوى العجيب المذكور أعلاه، بشكلٍ يتيح إعادة إنتاج ظروف البرجوازية المادية وتعزيز دولتها. وتتركز هذه التعديلات في أمور أساسية، يمكن إيجازها بما يلي:
أولاً: غالباً ما يتم وضع دستور يحافظ على طريقة الإدارة الأمنية من خلال تقييد جميع النشاطات والتحركات الممكنة للقوى الوطنية والثورية، بإضافة فقرات تتعلق بالحريات جنباً إلى جنب مع نقيضها، وتضمين الحقوق الأساسية لمجموع الشعب في الدستور وفق شروط الأمن العام.
ثانياً: تتفرد الفقرات المتعلقة بالسلطة التنفيذية وصلاحياتها بالنصوص الصريحة دستورياً، حيث تتمتع البرجوازيات الكبرى بحكم موقعها في الهرم الاجتماعي تاريخياً بامتدادات ونفوذ واسع في هذه السلطة، تستطيع من خلاله تُفريغ محتوى الحقوق الدستورية بتعليماتها ونصوصها التنفيذية المستمدة من النقيض (الدستوري) المذكور أعلاه.
ويكرس الدستور التقسيم بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، بالإضافة إلى كونه ينص صراحة على تغليب إحدى السلطتين على الأخرى، ما يعني ضمناً دعوته لاستخدام العنف حتى ضده. (يدعو الدستور بنفسه إلى تصفيته بالعنف، وهو لا يكتفي بتثبيت تقسيم السلطتين، بل يضخم ذلك بحيث يغدو التقسيم تناقضاً لا يطاق ـ ماركس). أما أهم نصوص الدستور المتعلقة بالسلطة التنفيذية، فتبدأ بالمحاسبة وتنتهي بمُدَد وعدد الولايات.
ثالثاً: النص على آلية للتصويت في البرلمان تضمن عدم خرق مواقع البرجوازية في حال أصبحت أقلية برلمانية، مثل تحقيق أغلبية كبرى في التصويت على التشريعات.
والبرجوازية سواء في ظروف نشوئها أو أزماتها لن تخرج عن أُطر العمل على تكريس واقع (دستوري ـ تشريعي) حسب البنود الأربعة أعلاه، وهي في ظروف الأزمات وعبر اللجان الانتقالية المشكلة من رحمها تعمل على إعادة حصر الصراع في المجتمع بين تكتلاتها وشروط كل كتلة للبقاء، بما يعني العمل على ضرب أسس الدولة بمعناها (المصلحي ذي الطابع الاجتماعي العام) وحصرها بمعناها المصلحي الخاص. وهي إذ تقوم بإعادة ترتيب مواقعها في المجتمع، فإنها تحتاج إلى استدعاء أشكال سابقة على التطور الاجتماعي (اثنية- طائفية- مذهبية- قومية- عرقية- دينيةـ..) تجعل للصراعات الثانوية والعرضية شكلاً جوهرياً في المجتمع لتغييب الجوهر الطبقي عن الصراع. وستُستَدعى هذه الأشكال ضمنياً في دستورها. غير أنه من المفيد ملاحظة أنها لدى تحسسها الخطر من هذه الأشكال، فإنها ستدَّعي تمثيلها الوحيد وحفاظها على مستوى التطور ونسيجه الاجتماعي ممثلاً بالدولة ـ دولتهاـ!
أما إطباق الحلقة فهو في وضع آلية انتخاب تعمل على تحييد أكبر نسبة من فئات المجتمع عن العملية الانتخابية والإدلاء بأصواتها في التصويت على الدستور وتعديلاته، كتحديد سنوات الإقامة في الدائرة الانتخابية، أو تقسيم الدولة إلى دوائر انتخابية.. إلخ. إن هذه الشروط فعلياً هي (إلغاء لحق الانتخاب العام). وستمر العملية الانتخابية (برلمانية ورئاسية) بأكملها بجانب الشعب لتقع من جديد في أكف البرجوازيات الكبرى. وبمعنى آخر، في أكف الثورة المضادة.
موقع البرجوازية الصغيرة في حاصل الصراع:
تَعتبر الطبقة الوسطى نفسها خارج الصراع الطبقي من حيث هي طبقة (وسيطة) بين الطبقتين المتصارعتين في المجتمع، وعلى ذلك فهي تعتقد أن تحقيق مصالحها هو تحقيق للمصالح العامة بأسرها، وأن تحررها هو تحرر لفئات المجتمع جميعها. وأنه لا يمكن تحقيق تحرر اجتماعي ووطني خارج أُطر تحررها كطبقة. وهي من موقعها الوسيط هذا تَعتبر أنها تمتلك الحلول لهذا الصراع، بل إنها تمتلك حق الدفاع عن حقوق الشعب وتمثيله أيضاً، بغض النظر عن مواقف ووجهات نظر وانطباعات الفئات المختلفة في المجتمع حول الصراع القائم. وعلى ذلك فهي تتوقع اصطفاف الشعب خلفها. غير أن أهم ما ينتج عن اعتقادها بحياديتها هذه هو قدرة البرجوازية الكبيرة على استمالتها، وإدخالها لصالحها في العمليات الانتقالية.
تخرج من هذه الطبقة الأحزاب البرجوازية الصغيرة جاهلةً أن طبيعة الدولة البرجوازية ستنحو بهذه الطبقة أخيراً إلى أحد مصيرين؛ فإما نحو البرجوازية الكبيرة، أو انضمام معظمها إلى جيوش البروليتاريا والمهمشين والمفقرين الضخمة.
بناءً على ما سبق، سنجد سبب عدم تجاوب طبقات الشعب الأخرى مع أية دعوة من قبل البرجوازية الصغيرة للاصطفاف خلفها في اللحظات الحاسمة؛ فهي تدرك أن البرجوازية الصغيرة رغم شعاراتها العريضة لن تتجنب في مواجهاتها سوى الوسائل والأدوات التي تشكل الشرط اللازم لنيل المطالب الجدية لفئات الشعب الأخرى، وانتزاعها من الخصم البرجوازي الكبير، وأن (نجاحاتها الدستورية الصغيرة، ستطفئ طاقاتها الثورية- ماركس).
وستفسر البرجوازية الصغيرة ـ الطبقة المتوسطة ـ أية خسارة تمنى بها بأنها نتيجة لتخلف طبقات الشعب عن ركابها، وليس ضيق أفقها كطبقة وعجزها عن إدراك أن انصياعها وتطبيقها الأعمى للقانون، هو انصياع وتسليم القياد لقانون الثورة المضادة بالضبط!
غير أن هزيمة البرجوازيات الصغيرة سياسياً هو انتصار إضافي للبرجوازيات الكبيرة بعد تحييد القوى الثورية أولاً، وتفرّد آخر لها في القرارات المصيرية وتمكين لمواقع قوتها.
السلطة التشريعية- البرلمان ـ:
تدرك البرجوازية أنها مضطرة بحكم موقعها ولمصلحتها الخاصة للقيام بتطوير البنى التحتية القائمة كشق للطرق وبناء للجسور وإنشاء للسكك الحديدية وتطوير نظم التعليم وتحديث القوانين. وأن هذا التطوير يخدم تطور وانفتاح آفاق الوعي في المجتمع، وهي تعلم أن حِراب تطويرها ستوجه ضدها، وأن هذا الانفتاح سيتطاول على سيادتها الطبقية وموقعها الاجتماعي السياسي. وفي هذا التهديد يكمن مضمون عدائها للقوى الثورية.
وحيث إن علاقتها بالطبقات الأخرى (لم تنظم بعد، كما أن شكل الصراع لم يتخذ بعد شكلاً يعبر عن كونه صراعاً ضد سلطة رأس المال ـ ماركس)، فإن السلطة التشريعية كونها قائمة على مبدأ الرقابة الشعبية وانتخاب الشعب لممثليه فيها، هي سلطة (تسبب للبرجوازية القلق)، إذ أن أي خوض في النقاش في البرلمان حول أي شأن اجتماعي سيتضمن بُعدَيه الاقتصادي والسياسي، وسيُستتبع بنقاشات في الجرائد والنوادي، وأقله في اللقاءات الاجتماعية ويشكل رأياً عاماً.
وحيث إن البرلمان قائم على نظام الأكثرية، فإنه وفقاً لما ذُكِر سيخضع إلى أكثرية الرأي العام، وهو ما تعمل البرجوازيات الكبيرة على تجنبه باللجوء إلى تعطيل البرلمان، وتكبيله وصولاً أحياناً إلى (إلحاقه) بالسلطة التنفيذية وأحزابها! أي أن البرجوازية بتمثيلاتها الواقعية في المجتمع (تجارية ـ صناعية) تعزل نفسها عن تمثيلاتها السياسية في البرلمان لصالح تمثيلها في السلطة التنفيذية. وهي لن تُغيّر من ذلك الواقع في ظروف الثورة المضادة.
السلطة التنفيذية- الحكومة:
إذاً، تدرك البرجوازية ضرورة التنازل عن السلطة السياسية لصالح الحفاظ على سلطتها الاجتماعية، وذلك يتطلب تعطيل قواها ذاتها في البرلمان، أي: تعطيل البرلمان لضرورات استتباب الوضع الاقتصادي- الاجتماعي لصالحها. أي بمعنىً أوضح يبدو ألّا سلطات سياسية بيد البرجوازية شأنها شأن أية طبقة أخرى في المجتمع! وأن الاستبداد مُسلط عليها بالتساوي مع الطبقات الأخرى. وللقيام بذلك تحتاج إلى أن تُرخي القياد السياسي للسلطة التنفيذية التي تبدو برئاستها (المنتخبة) من قبل الشعب، السلطةَ الوحيدة القادرة على فرض النظام والقانون على المجتمع بأكمله.
إن البيروقراطية بما تعنيه من سلطة تنفيذية، والتضخيم الهائل لجهاز الدولة وزيادة تعقيده مشمولاً بالأجهزة الأمنية والجيش، هو ضرورة لأزمة لسيادة البرجوازية في المجتمع، حتى إن ادَّعَت السلطة التنفيذية البيروقراطية الطفيلية استقلالها عنها. إذ أن جميع النشاطات الحكومية التي يجري تسويقها على أنها تجري منعزلة عن المجتمع من الطرق والجسور والمدارس والمصانع.. إلخ، إنما جرت لتعزيز سلطات الحكومة وزيادة مركزيتها السياسية بما تعنيه ضمناً تكثيفاً لهيمنة البرجوازيات الكبرى في مواجهة المجتمع بأكمله.
أخيراً، إذا ما أخذنا بالاعتبار ما سبق، إلى جانب أن فيض العاطلين عن العمل بسبب طبيعة العلاقات الإنتاجية في المجتمع البرجوازي، يؤلف جيشاً هائلاً يطلب العمل في الوظائف الحكومية بوصفها (صدقات محترمة- ماركس)، وهو يكّون طبقة مصطنعة طفيلية من الموظفين غير منتجة موازية للمجتمع، يشكل الحفاظ على جهاز السلطة التنفيذية ضرورةً وجودية لها. فإنه يمكننا تفسير السبب الكامن لعودة النزاع البيني بين تكتلات البرجوازية التجارية والصناعية.. لإحكام سيطرة إحداها على هذه السلطة، وأنها تعتبر أن حيازة هذا الجهاز (جهاز الدولة التنفيذي) من موقعه الفوقي المسيطر على أيديولوجيات المجتمع بأسره وآليات نشرها وتدعيمها والممثل بشكلٍ رئيس لعلاقات إنتاجه هي (غنيمتها الرئيسة- ماركس). وما الصراع الجاري عالمياً بدءاً من أروقة السياسة الأمريكية ورئيس سلطتها التنفيذية، مروراً بالدول الأوروبية وصولاً إلى دول منطقتنا خارج عن سياق الصراع البيني بين هذه البرجوازيات، دوليةً وإقليميةً ومحلية، للسيطرة على هذا الجهاز أو تحطميه.
خلاصة:
ينبغي ألّا يغيب عن القارئ، أنه في ظل سيطرة رأس المال المعولم بعمقه الإمبريالي، فإن الدول البرجوازية فقدت أي معنى قومي أو وطني أو مستقل، أو أنها مهددة بمعانيها هذه ضمن التحولات الجارية في بنيتها نحو الليبرالية الجديدة، إذ أنها بمعناها العالمي حكومات مصغرة لحكومة رأس المال المعولم، وما تحالف حكومات المنطقة ضد أية انتفاضة أو تحرك شعبي في إحداها سوى دليل على تحالف هذه الحكومات سوية ومع حكومة رأس المال المعولم ذاتها (كالتحالف الخليجي ضد الفئات الشعبية في البحرين واليمن وغيرها)، وبالتالي: إن مواجهة هذه الحكومات لن تكون محصورةً بأدواتها في البرلمان أو الإعلام الخاضعة أصلاً لها. وإنما من الوعي أنّ مستوى التناقض الحاصل بين البرجوازيات المحلية والدولية وشعوبها، يفرض على شعوب العالم التحالف محلياً وإقليمياً ودولياً، وتبني سياسات اقتصادية اجتماعية واضحة نقيضة للبرجوازية. وفي هذا مقال آخر.
إن ما يشهده العالم اليوم لا يخرج عن سياق استخدام البرجوازيات لأدواتها في الثورات المضادة ضد شعوب الأرض، وإن الطرح المذكور لا يهدف إلى إظهار مدى تعقيد مشهد مطلوب تفكيكه بهدف التثبيط، إذ أن امتلاك الشعوب للوعي المعرفي هو السلاح الفعال بأيديها ضد أعدائها البرجوازيين.