«بلاها بلا وفيها بلا»!
سمير علي سمير علي

«بلاها بلا وفيها بلا»!

تعتبر فاتورة الأدوية الشهرية لبعض المرضى من المواطنين الذين يعانون من الأمراض المزمنة بمثابة الكارثة الشهرية المحققة، فهي الشر الذي لا بد منه مطلع كل شهر، وإلّا فعلى الصحة السلام، والرحمة على إمكانية البقاء على قيد الحياة.

 

التحدي الأكبر بالنسبة لهؤلاء، هو: إمكانية توفير قيمة هذه الفاتورة الشهرية بالتوازي مع إمكانية توفير قيمة بقية الضرورات الحياتية اليومية لهم ولأسرهم، وهو على الأغلب تحدٍّ خاسرٍ يتم دفع ضريبته إما على حساب المزيد من التقشف على مستوى الاحتياجات والضرورات اليومية، أو على حساب المخاطرة بالصحة والسلامة الشخصية، وذلك تماشياً مع واقع الدخول الشهرية الهزيلة.
الفوضى والحلقة الأضعف
شهدت أسعار الأدوية خلال السنين الماضية الكثير من الارتفاعات المتتالية بذرائع مختلفة، اعتباراً من تباينات سعر الصرف، مروراً بالعقوبات الاقتصادية، وليس انتهاءً بعمليات تصحيح الأسعار، محاباة لأصحاب المعامل الدوائية والمستوردين وأصحاب المستودعات الطبية، بالإضافة إلى ما شهدته السوق الدوائية من حالات احتكار وفقدان الكثير من الأصناف والزمر منها، ناهيك عن تراجع نوعيتها ومواصفاتها، وصولاً إلى وجود الكثير منها بالتداول خارج حدود الرقابة والمتابعة، ناحية المواصفة والجودة والمصدر كما ناحية السعر، يضاف إلى ذلك كله تسجيل حالات رفع السعر الفوضوية من قبل بعض مستودعات الأدوية والصيادلة اعتباطاً واستغلالاً للمرضى، في ظل تراجع الواقع الدوائي والصحي عموماً، خاصة وأن الكثير من المرضى استنكفوا عن معاودة عيادات الأطباء بسبب ارتفاع أجور المعاينة لديهم، ما أتاح للصيادلة فرصة أكبر على مستوى توصيف الحالة المرضية ووصف العلاج المناسب لها مما يتوفر لديهم من أصناف دوائية، وبالسعر الذي يرتؤونه مناسباً لهم.
وقد سجلت بعض الأصناف والزمر ارتفاعاً بالأسعار، بلغ بعضها حد 500% خلال السنوات الماضية، وبعضها أكثر من ذلك بكثير بسب فقده وعدم توفره إلا تهريباً.
هذا الأمر وضع المرضى بحالٍ يرثى لها، سواء على المستوى الصحي أو على مستوى ما يتكبدوه من مبالغ كبيرة لقاء هذا الجزء من عمليات الاستشفاء المتمثل بالحصول على الدواء فقط.
أما الضريبة الأكبر جراء هذا الواقع المنفلت والفوضى السعرية، فقد كانت من نصيب من يعانون من الأمراض المزمنة (السكر- الضغط الشرياني- هشاشة العظام وغيرها) والذين يعانون من الأمراض الخطيرة الأخرى المهددة للحياة أيضاً (السرطان- الأمراض المناعية- القصور الكلوي وغيرها)، فهؤلاء تبدأ فاتورتهم الشهرية بمبلغ 15 ألف ليرة، وقد تتجاوز الـ 100 ألف ليرة، بحسب طبيعة المرض.
أما الحلقة الأضعف من كل هؤلاء المرضى، فقد كانوا كبار السن من المتقاعدين، خاصة وأن هؤلاء بالمطلق يعتبرون خارج المظلة التأمينية، على الرغم أنهم أفنوا عمرهم بالخدمة العامة من خلال عملهم ووظيفتهم، وأصبحوا متقاعدين بأجر شهري يكاد لا يكفي فاتورة الدواء الشهري الضروري لبقائهم على قيد الحياة، والأسوأ وضعاً من هؤلاء هم كبار السن ممن لا دخل شهرياً لديهم، وهم الأكثرية المطلقة من المرضى بأمراض مزمنة وخطيرة، مع عدم إغفال المرضى من أطفال ونساء لا معيل لهم أيضاً، وهؤلاء أصبحوا شريحة لا يستهان بها خلال السنوات الماضية من الحرب والأزمة، كأحد تداعياتها.
واقعٌ مزرٍ على أعين الرسميين
هذا هو الواقع المزري على جانب واحد فقط من الشأن الصحي بجوانبه المختلفة الكثيرة الأخرى، بغض النظر عما يتم الحديث به على المستوى الرسمي من تبريرات لا تقدم ولا تؤخر على المرضى، وخاصة المفقرين منهم، متقاعدين أو بدون أجر أو معيل.
فهؤلاء أصبحت فاتورة العلاج الشهرية لأمراضهم بمثابة البلاء على حساب متطلبات معيشتهم الضرورية الأخرى، كما أن إهمالها وعدم تأمينها هي بلاء أكبر على مستوى صحتهم وبقائهم أحياءً، في معادلة حياتية لا يسجل فيها مجاهيل، بل المزيد من التجاهل والإهمال والاستغلال بحقهم.
لقد صرح معاون وزير الصحة مطلع شهر آب الماضي عبر إحدى وسائل الإعلام: «إن أسعار الأدوية لا تزال الأرخص مقارنة مع دول الجوار، وهي لا تتجاوز عُشر الأسعار العالمية للأصناف المتماثلة»، مضيفاً أن: «أصحاب معامل الأدوية يشكون باستمرار من عدم تناسب الأسعار مع الكلف والصيادلة يطالبون بنسب ربح على اعتبار أنها بقيت ثابتة»، وحول تباين أسعار الأدوية بين صيدلية وأخرى قال: «هذه الفوضى ستنتهي قريباً مع تسوية الأسعار حيث سيلتزم الجميع»، وهو ما لم يثبت حتى الآن.
سِهام الإدانة
الملفت برغم كل الصخب عن التكاليف والحرب والأزمة والعقوبات، أنه وعلى هامش هذا الواقع المزري والاستغلالي، تزايدت أعداد الصيدليات ومستودعات الأدوية، كما تم الإعلان عن منح التراخيص للمزيد من معامل الأدوية، ما يعني ويؤكد على أن هذه المأساة الدوائية التي يعيشها فقراء الحال على مستوى صحتهم ومعاشهم وبقائهم أحياءً لم تكن إلّا فرصة لاستقطاب المزيد من المستثمرين بهذه المأساة، على أعين الرسميين وبمباركة منهم.
فهل قليل على هؤلاء المرضى، وخاصة المفقرين منهم، بعد كل ذلك أن يوجهوا حراب إدانتهم بوجه مستغليهم، كما بوجه الحكومة والرسميين، الذين لم يروا في مرضهم إلّا فرصة للاستغلال والمزاودة؟