كفوا عن أبنائنا
ربما لا غرابة من مشاهدة طفلة باكية وهي تعود أدراجها إلى بيتها بعد أن تم منعها من دخول المدرسة بسبب عدم تقيدها باللباس المدرسي في بعض المناطق، علماً أن ما ترتديه من ملابس، مع ما يعكسه من فقر، يعتبر مناسباً ناحية اللون والشكل من النموذج المطلوب، لكنه مختلف بالمواصفة قليلاً، ولا عجب من مشاهدة أب منكسر وهو يصطحب ابنته عائداً إلى بيته، بعد أن أبلغته إدارة المدرسة برفض استقبال ابنته لعدم التقيد باللباس المدرسي، وهو عاجز عن تأمينه، ناهيك عن عجزه في تبرير فقره وتقصيره لابنته.
فهل أصبح اللباس المدرسي عاملاً إضافياً مساعداً لزيادة الفرز الطبقي على المستوى التعليمي، بحيث أن من يملك قيمة هذا اللباس يمكن لأبنائه متابعة الدراسة، ومن لا يملك يفقد أبناءه الحق في متابعة دراستهم؟ في ظل تعميم فرض اللباس المدرسي، والحديث الرسمي الذي يقول: إن الأزمة بمفرزاتها قد انتهت، وبأن اللباس المدرسي سعره رمزي ومتاح، ولا ذريعة بعد فسح المجال أمام شريحة الموظفين لتقسيط قيمته على عشرة أشهر!
الجوهر والقشور
في المقابل، لا بدَّ من القول: إن الوزارة التي ألزمت الطلاب بالتقيد باللباس المدرسي هي نفسها لم تتقيد بتأمين ما عليها من واجبات ومسؤوليات تجاه الطلاب والعملية التعليمية بالشكل التام، اعتباراً من أعداد المدارس وتأهيل بناها التحتية بما في ذلك المقاعد الدراسية، مروراً بتوفير الكادر التدريسي والإداري الكافي، وصولاً لتأمين مستلزمات العملية التعليمية نفسها من كتب ومساعدات تعليم وغيرها، وليس آخراً بالمناهج المتبدلة والمتغيرة وغير المستقرة والتي وضع عليها الكثير من الملاحظات والانتقادات، ومع كل ذلك يتم التركيز على قشور العملية التعليمية ونسيان جوهرها وأسها، وهو: الطالب المستهدف، وما سيحققه من هذه العملية على مستوى مخرجاتها النهائية التي يعتبر هو نفسه غايتها.
بين التذمر والقبول
المتذمرون عادةً من فرض اللباس المدرسي هم شريحة أبناء الأثرياء، الذين يرغبون بالتباهي بما أنعمت عليهم ثروة ذويهم من إمكانية لتبديل ما يرتدونه من ألبسة ناحية الموضة والمواصفة والجودة، والماركات والعلامات التجارية لألبستهم مرتفعة الأثمان، في مقابل ندرة تذمر فقراء الحال وذويهم من اللباس الموحد الذي يخفي تحته آثار الفقر، مع ما يوحيه شكلاً من إلغاء لبعض الفوارق بين الطلاب.
أما المتذمرون اليوم من اللباس الموحد فهم فقراء الحال الذين أصبحوا عاجزين عن تأمينه لأبنائهم، وذلك لارتفاع أسعاره مقارنة مع واقعهم المعيشي المقترن بأجورهم الهزيلة، والمعدومة في كثير من الأحيان، في ظل فرضه رغماً عن واقعهم البائس.
ثقافة ذات جوهر وغايات
مما لاشك فيه، أن غاية اللباس المدرسي الموحد هي تلك الصورة العامة التي توحي بالانضباط والالتزام كهوية بصرية خاصة لكل مرحلة دراسية، ولكل مدرسة ربما، مع الالتفاف على الفوارق الطبقية شكلاً عبر إلغاء مقاييس الفقر والغنى المرتبطة باللباس نوعا ما، وكل ذلك من أجل تكريس نوعٍ من الثقافة العامة بمدلولاتها المادية والمعنوية لدى الطلاب، وفي المجتمع عموماً، وتوجيهها نحو الغايات الأساسية من العملية التعليمية وجوهرها.
واللباس الموحد ليس مقتصراً على المدارس والمؤسسات التعليمية، بل هو نموذج معمم على غالبية المؤسسات والقطاعات، العمالية والاقتصادية والخدمية، وذلك لأهميته في تعزيز الانضباط والالتزام عبر الهوية البصرية الموحدة والثقافة العامة المرتبطة بها مادياً ومعنوياً، ناهيك عن الجانب الاقتصادي وعوامل الأمان المرتبطة ببعضها كذلك الأمر.
على ذلك، فإن اللباس الموحد في بعض القطاعات ليس وليد صدفة بل هو نتاج ثقافة مجتمعية غارقة في القدم، فرضته جملة من العوامل التاريخية، وقد صبغته كل مهنة وكل حرفة وكل قطاع بطابعها وفقاً لضروراتها وحاجاتها وطبيعتها وجوهرها وغاياتها، مع بعض التغيرات المرتبطة بتطور ثقافة المجتمعات ودرجة هذا التطور، حالها كحال أي لباس آخر واقترانه ببيئته الاجتماعية وطبيعته الطبقية.
اللباس أداة فرز
واقع الحال اليوم، يقول: إن اللباس الموحد في المدارس ينحو ليصبح دليلاً فاقعاً على التباين والتمايز الطبقي، فسعره لم يعد يتوافق مع إمكانات الفقراء لتأمينه، ناهيك عن النوعية والمواصفة والجودة التي أصبح بعضها موجهاً خلال عملية التصنيع للنخبة من الطلاب من أبناء الأثرياء دوناً عن سواهم.
فنظرة واحدة على طابور إحدى المدارس، أو خلال ساعات الدخول والانصراف منها، تكفي لمشاهدة التمايز الطبقي بين الطلاب من خلال لباسهم وحقائبهم وأحذيتهم، ما يعني: أن الغاية المتوخاة منه شكلاً لم تعد متوفرة كما لم تلغى عوامل التباهي بين الطلاب، مع ما تتركه من أثر معنوي في نفوس فقراء الحال من هؤلاء، وهم الغالبية.
أما عن الغاية الأسمى، وهي: التركيز على جوهر العملية التعليمية من خلال الالتفاف على الجوانب الطبقية والاجتماعية شكلاً، فنظرة سريعة على جوهر هذه العملية، يتبين بأنها قد أصبحت هي الأخرى تنحو متوجهة للنخبة من أبناء الأثرياء دوناً عن فقراء الحال والمعدمين والمسحوقين، وخاصة ناحية إمكانية متابعة التعلم التي تنحاز يوماً بعد آخر لمصلحة أصحاب الثروات وأبنائهم، سواء في المدارس الخاصة والدروس الخصوصية خلال مرحل التعليم الأساسي والثانوي، أو وصولاً إلى المرحلة الجامعية، والتي يتم تكريسها عبر السياسات التعليمية المتبعة كجزءٍ من منظومة السياسات الليبرالية المحابية أصلاً لهذه النخبة والحريصة على مصالحها، وكل ذلك سبق وأن تم الحديث عنه جملة وتفصيلاً عبر الكثير من وسائل الإعلام، نقداً وتمحيصاً.
حق بمسؤولية الحكومة
إن فرض اللباس الموحد في المدارس، قفزاً على الأزمة ومفرزاتها وتعالياً على الظروف الاقتصادية المعيشية القاسية التي يعاني منها الغالبية العظمى من الشعب، وصولاً لاعتباره معياراً لاستقبال الطلاب من عدمه في بعض المدارس، خرج عن كونه ثقافة ذات غايات وجوهر، بل أصبح بالمحصلة أداة فرزٍ وتمايزٍ جديدة موجهة نحو فقراء الحال والمعدمين، لإبعاد أبنائهم عن العملية التعليمية ومتابعتها بشكل رسمي.
فالحق بالتعليم المجاني هو المُلزم وفقاً للدستور، وهو ما يجب أن تتم المحاسبة على عدم تنفيذه والتقيد به، وأية إعاقة أو عرقلة أو شروط تحول دون الوصول لهذا الحق تعتبر مخالفة قانونية ودستورية تجب المحاسبة والمسائلة عنها وعليها، فجوهر الأمر هو العملية التعليمية نفسها وبذاتها أولاً وآخراً وأهماً، على ذلك فإن الإلزام باللباس المدرسي لا يجب أن يصبح شرطاً بانتفائه تنتفي العملية التعليمية ويحرم على إثرها الطالب من حقه بالتعلم وهذا الأمر لا يمكن اعتباره مزاجاً أو ارتجالاً وسواها من التسميات والمترادفات، بل هو تعدٍ فج على حق التعليم المجاني المفترض أنه مصان دستوراً وقانوناً، وعلى الحكومة تأمين وتسهيل سبل الوصول إليه وبمسؤوليتها تحقيق ذلك، كي لا تكرر مشاهد الانكسار والحرمان على الطلاب وذويهم، وحرصاً على مستقبل الوطن المتمثل بمستقبل جميع أبنائه وكراماتهم.