بقدونس مستوردة!
كثيرة هي التحديات التي يواجهها الإنتاج الزراعي، ومضنية هي المعاناة التي فرضت على الفلاحين نتيجة تكرار خسائرهم السنوية، ومع ذلك وبدلاً من تطوير صناديق الحماية الحكومية المخصصة لهؤلاء، هناك من يطرح: تحميلهم أعباء إضافية عبر مشروع التأمين الإلزامي على الإنتاج الزراعي.
فقد تأثرت كافة المناطق الزراعية في القطر بالعوامل الجوية والمناخية المتقلبة، والتي كان آخرها العواصف المطرية التي أتت على المحاصيل الزراعية، اعتباراً من محاصيل القمح والبقوليات مروراً بمحصول التبغ، وليس آخراً بمحاصيل التفاح والبندورة والزيتون، حيث تلقى الفلاحون ضربة موجعة خلال مواسم هذا العام، مما زاد من خساراتهم.
صناديق الحماية المتواضعة
الأراضي الزراعية في كل من (حمص_ طرطوس_ اللاذقية_ بانياس_ الحسكة_ سهل الغاب_ السويداء_ حلب_ حماة_ درعا_ وغيرها الكثير من المناطق الزراعية) يواجه فيها الفلاحون خسائر متتالية دون أن يجدوا أي عون جدي يخرجهم من بؤسهم الذي أصبح مزمناً، وصولاً لهجر الزراعة والأرض رغماً عن إرادتهم.
فالحديث عن تكاليف الإنتاج، والصعوبات والأعباء التي يتحملها الفلاحون إنتاجاً، والاستغلال الذي يتعرضون له تسعيراً وتسويقاً، كلها عناوين ليست جديدة، وربما لا داعي للشرح والاستفاضة فيها، فقد قيل فيها الكثير.
لكن الحديث عن التعويضات والصناديق المخصصة لدعم الفلاحين والإنتاج الزراعي أصبح ملحاً على ضوء الخسائر الكبيرة التي تعرض لها الفلاحون بنتيجة العواصف المطرية الأخيرة، خاصة وقد تم الإعلان عن تشكيل لجان لحصر الأضرار من قبل مديريات الزراعة في المحافظات، لتقييمها ورفعها للجهات المعنية من أجل تحديد مقدار التعويضات لكل فلاحٍ، حسب نسبة الضرر المقدرة، والتي يقوم المصرف الزراعي بصرفها تباعاً حسب الجداول الواردة إليه.
ولعلنا لا نورد جديداً إذا قلنا: إن التعويضات التي يتم صرفها بالنتيجة هي تعويضات متواضعة، جزئية ومحدودة، كما أنها غالباً لا تشمل جميع المتضررين، ناهيك عن أن مواعيد الصرف تأتي متأخرة غالباً، ناهيك عن عوامل الروتين والمحسوبية والفساد التي لا تخلو منها أية معاملة.
جملة النقاط المثارة أعلاه (التكاليف_ التسعير والتسويق_ التعويض عن الأضرار والخسائر) وفي ظل الاستمرار بنفس الآلية من العمل بالصناديق المخصصة لدعم الفلاحين وحماية الإنتاج الزراعي، وواقع ترديه الذي وصل لحدود قطع الشجر وهجرة الأرض، تفرض أن يعاد النظر بهذه الصناديق ودورها ووظيفتها، من أجل تطويرها وزيادة فاعليتها بما يحقق دعم الإنتاج الزراعي وتطويره، ويحمي الفلاحين بشكل جدي وملموسٍ وعادلٍ، بدلاً من المشاريع المشبوهة التي تضر بالفلاح وبالإنتاج الزراعي، والمصلحة الوطنية بالنتيجة.
انتكاسة للإنتاج والمنتجين
واقع الحال، يقول: أنه بالإضافة إلىكل المعاناة التي يتعرض لها الفلاحون، والتي تنعكس سلباً عليهم وعلى ومعيشتهم ومستقبلهم، كما على مستقبل الإنتاج الزراعي نفسه، هناك مشروع يقضي بأن يتم الإلزام بالتأمين على الإنتاج الزراعي، ما يعني المزيد من الأعباء على الفلاحين على مستوى التكلفة، وبالتالي على مستوى الخسائر السنوية المتوقعة، ناهيك عن الانعكاسات السلبية الأخرى على الأسعار الاستهلاكية بالنسبة للمواطنين.
فقد رشح عبر وسائل الإعلام: أن الحكومة تدرس إمكانية تطبيق التأمين الإلزامي على المحاصيل الزراعية، وذلك على ضوء الأضرار التي تعرضت لها المحاصيل بنتيجة العاصفة المطرية الأخيرة.
وقد بيّن مدير في هيئة الإشراف على التأمين، لإحدى الصحف المحلية مؤخراً: «أن النموذج ما يزال فكرة، ولن يتم تطبيقها دون عرضها ومناقشتها مع اللجنة المعنية التي تضم كلاً من وزارة الزراعة والاتحاد العام للفلاحين وغرف الزراعة والمصرف الزراعي، مشيراً إلى أن الهيئة تسعى لوضع محددات عامة للتأمين الزراعي وتطبيقه بشكل مرحلي، وعلى محاصيل محددة في البداية، وهي الزراعات المحمية ومحاصيل البندورة والبطاطا، كما تم اختيار الأولوية في التأمين على المواشي بالتأمين على الأبقار».
الحكومة السباقة للخير!
يشار إلى أن مجلس الوزراء، في جلسته المنعقدة بتاريخ 23/1/2018، أقر تكليف وزارتي الزراعة والإصلاح الزراعي والمالية، بإعداد مشروع متكامل حول التأمين الزراعي على الأعمال والمحاصيل الزراعية التي يصيبها الضرر جراء العوامل الطبيعية أو أية عوامل أخرى.
وفي تصريح للصحفيين عقب الجلسة، بحسب ما ورد على موقع الحكومة، أشار وزير المالية إلى إمكانية التأمين على المحاصيل الزراعية بشكل عام في المؤسسة العامة السورية للتأمين، إلى جانب شركات التأمين الخاصة، فهذه المؤسسات تؤمن على مخاطر متعددة، وقال: إن المطلوب من هذه الشركات العامة والخاصة العمل على دراسة إمكانية التأمين على الأماكن الزراعية المختلفة، مثل: البيوت البلاستيكية التي هي بحاجة للتأمين.
سياسات لا مستقر لحضيضها
النتيجة، إن الإنتاج الزراعي، وفقاً للمشروع الحكومي المحابي لمصالح أصحاب رؤوس الأموال، سيدخل على خطاه حلقةً استثماريةً ربحيةً جديدةً تتمثل بشركات التأمين، فمشروع التأمين الإلزامي أعلاه، وبغض النظر عن كل ما يمكن أن يروج باسمه من عناوين تسويقية وترويجية، وبغض النظر عن كل ما يساق له من ذرائع ومبررات، فهو من كل بد سيصب في مصلحة شركات التأمين أولاً وآخراً، على حساب الفلاحين ومصالحهم، كما على حساب الإنتاج الزراعي، والمزيد من تدني الإنتاج وقطع الأشجار وهجرة الأراضي الزراعية.
كما أنه مؤشر إضافي جديد عن تراجع دور الدولة على مستوى حماية الفلاحين والإنتاج الزراعي، وربما يكون الخطوة الأولى نحو إنهاء وتصفية الصناديق الحكومية المخصصة لهذه الغاية لاحقاً، وفقاً للسياسات الليبرالية المتبعة رسمياً من قبل الحكومة، وخاصة على مستوى تخفيض الإنفاق العام.
فحتى العوامل الطبيعية وما ينتج عنها من أضرار على الزراعة والمزارعين، أصبحت فرصةً للاستثمار من أجل جني المزيد من الأرباح في جيوب البعض، على حساب مآسي وخراب بيوت الفلاحين!
ولا ندري بالنتيجة إلى أين يمكن أن توصلنا تلك السياسات على مستوى الأمن الغذائي، الذي يعتبر الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، أسها وأساسها، طالما أن الحكومة ماضية بالتضحية به تباعاً؟
فجملة السياسات الزراعية المتبعة تؤكد على: أن الحكومة ماضية بنا نحو المزيد من الاستنزاف على المستوى الفردي والوطني، والمزيد من الجوع والعوز، وربما وصولاً إلى المزيد من التبعية على مستوى استجداء غذائنا.
فلا غرابة مع الاستمرار بهذه السياسات، التي لا مستقر لحضيضها على مستوى تدمير الإنتاج، أن تجعل من جرزة البقدونس سلعة مستوردة من قبل التجار والسماسرة المحظيين حكومياً.
قد يبدو المثال غريباً ومبالغاً به، لكنه من كل بد، هو أمنية قابلة للتحقيق لهؤلاء المستغلين، ولم لا طالما الحكومة مستمرة بسياساتها التي لا تصب إلا في مصلحتهم، محققة رغباتهم بالمزيد من الاستغلال وجني المزيد من الأرباح.