هل الحياة حدث عرضي؟
سمير علي سمير علي

هل الحياة حدث عرضي؟

من كثرة الأحداث المؤلمة التي نواجهها في حياتنا بشكل يومي، أصبحت أخبار الموت حدثاً عرضياً تمر على مسامعنا بكل حيادية، وكأنها حال اعتيادية كغيرها مما يمر بنا من آلام وهموم.




فعلى سبيل المثال: تداولت وسائل الإعلام، مطلع الأسبوع الحالي، خبر انتحار أحد الأطفال بمسدس مجهول المصدر، وذلك بسبب رهاب الامتحان وضغط الدراسة كونه طالباً في الصف التاسع، مع بعض التفصيلات الصغيرة عن ملابسات الحادث.

بؤس وجحيم
هكذا مر الخبر مرور الكرام كغيره من الأخبار الكثيرة اليومية، والتي تحمل كل منها شكلاً من أشكال الألم، كما مر غيره من الأخبار المشابهة عن الضحايا الأفراد، عابري الأسماع، سواء بسبب السلاح المنفلت والرصاص الطائش طيلة السنوات الماضية، أو لغيره من الأسباب الكثيرة الأخرى، ناهيك عن الضحايا بالجملة، نتيجة الحرب وتداعياتها الكثيرة.
ولتمر كذلك بعض المفردات والعبارات، مثل: (انتحار_ طفل_ مسدس مجهول المصدر_ رهاب الامتحان وضغط الدراسة_ طالب صف تاسع) وكأنها مفردات وعبارات من العادي اقترانها بخبر مفجع كالموت! بدلاً من أن تكون كل منها بوابة بحث وتقصٍ للوصول لاستنتاجات وحلول عسى تخرجنا من حال البؤس والجحيم الذي وصلنا إليه، أو تحد من آثاره السلبية علينا.

أسئلة متداعية
كثيرة هي التساؤلات التي تتداعى لأذهاننا عند تلقينا الأخبار المفجعة، والتي سرعان ما يتم القفز عليها وتجاوزها بسبب ما تسرقه منا، آلامنا وهمومنا اليومية، وسرعة إيقاع نمط الحياة المفروض علينا، بحيث بتنا نغفل تفاصيلها، وصولاً لفقداننا معنى الحياة وجدواها، ناهيك عن جمالها المفقود الذي أصبح من منسياتنا بغفلة من الزمن ومنا.
فهل باتت قيمة الحياة متدنية لهذا الحد لدينا، أم أن هموم حياتنا اليومية وآلامها فرضت علينا أن نصبح حياديين أمام أخبار الموت والفجيعة، أم أن أخبار الموت نفسها فقدت أهميتها، بحيث لم تعد تلك الأخبار التي تتصدر عناوين الصحف والإعلام؟
وهل بات من الطبيعي خلال أي شجار أن يتم استعمال السلاح كوسيلة لفرض القوة والنفوذ، مع عدم استغراب وقوع ضحايا جانبيين نتيجة هذا الاستعمال، أم لعل التخلص من الحياة «انتحاراً أو قتلاً للغير» بات شكلاً مقبولاً نتيجة جملة الضغوط اليومية؟
وهل انعدام الاهتمام الرسمي بالحياة ومتطلباتها أفقدها معناها وجدواها، أم أن اللامبالاة الرسمية تجاه السلاح المنفلت جعل منه ظاهرة اعتيادية فرضت علينا التعامل مع ضحاياها بمثل تلك الحيادية السلبية، كحال الكثير من الظواهر السلبية التي انتشرت واتسعت خلال السنوات الأخيرة؟
مع الكثير من الأسئلة المشروعة الأخرى، التي لها صلة وثيقة بما وصلت إليه حالنا، وغالبيتها مستمرة دون أية إجابة شافية عنها!

فجائع متكاثرة
مما لا شك فيه أن فجيعة الموت لا يمكن نسيانها وتجاوزها بسهولة بالنسبة للمقربين من الضحايا، الأهل والأصدقاء والأحباء، ومع كثرة الضحايا بنتيجة استمرار الموت متعدد الأسباب طيلة السنوات الماضية، لم يعد يجد المقربون حتى من يتعاطف معهم أو يواسيهم، فلكل منهم ضحاياه، ولكل منهم فجيعته الخاصة، ناهيك عن الفجائع الكثيرة الأخرى التي لا تقل إيلاماً عن فجيعة الموت، كحالات المفقودين والمخطوفين والمعتقلين، أو كحالات الإعاقة بدرجاتها المتفاوتة، والتي ازدادت نسبتها بشكل كبير خلال السنوات الماضية، أو كحالات الأمراض المستعصية والسرطانات المتزايدة هي الأخرى، والكثير الكثير من أسباب الألم والمعاناة الأخرى، وصولاً للصعوبات اليومية المتمثلة بتأمين سبل المعيشة، والضغوطات التي نعيشها كمواطنين من أجل ذلك، كفجيعة يومية فرضت علينا معايشتها، فقراً وجوعاً وبطالة وتهميشاً واستغلالاً و...

من المسؤول عن إعلاء قيمة الحياة؟
دون الخوض بالمعنى الفلسفي للحياة، ربما اختصاراً يمكننا القول: إن نمط حياتنا (الفكري والنفسي والروحي والثقافي والمعرفي و..) الذي يمنح حياتنا القيمة والمعنى افتراضاً، تحدده جملة من الشروط المادية (الموضوعية والذاتية) التي نعيش من خلالها وبها، وهي بظرفنا الحالي متشابكة ومعقدة، بحيث تاهت معها وبها قيمة الحياة ومعناها.
فعلى المستوى الذاتي ثبت بالدليل الملموس، أننا شعب محب للحياة ونقدر قيمتها، ولعل حياتنا اليومية بتفاصيلها الكثيرة أكبر دليل على ذلك، رغم كل عوامل البؤس المحيطة بنا كظرفٍ موضوعيٍ طيلة السنوات والعقود الماضية، وعلى رأسها السياسات الحكومية المتبعة والمتعبة تجاهنا، وتجاه حياتنا، التي أصبحت سلعة استهلاكية للاستثمار والاستغلال تحت الطلب، لمصلحة المستفيدين من هذه السياسات من حيتان المال والفساد والاستبداد وكبار المتنفذين والمستغلين، حتى أصبحنا بالنتيجة كأفراد معنيين بقيمة الحياة، التي نحبها ولم يتسنَّ لنا أن نعيشها، مجرد أرقام في بازارات العهر الأخلاقي والقيمي و.. بل والمزاودات، ليس على المستوى المحلي من خلال استمرار نمط الاستغلال الليبرالي الذي يزداد وحشية يوماً بعد آخر، عبر السياسات المتبعة رسمياً، أو عبر التراخي واللامبالاة تجاه الحياة وقيمتها ومعناها، بل وعلى المستوى الإقليمي والدولي كذلك الأمر، ووفقاً للأسس والأهداف الاستغلالية نفسها، وبالأدوات الأكثر وحشية وفتكاً بالحياة، بما فيها ذات الطبيعة الفاشية، وخاصة خلال سني الحرب والأزمة.
فالمسؤول الأول والأخير عن قيمة الحياة من أجل أن يكون لها معنى وجدوى، بعد استبعاد العوامل الذاتية لتوفرها، هي: السياسات التي يتم فرضها، وبحسب نتائجها.. فإما أن ترفع من قيمة الحياة وتُعليها.. وإما أن تحط منها لتُفقدها تلك القيمة بالنتيجة كما تُفقدها جدواها.

تغيير السياسات مطلب حياتي
على ذلك، فلا غرابة من انعدام الاهتمام الرسمي بالحياة وقيمتها، أو اللامبالاة تجاه الكثير من الظواهر التي تقلل من قيمة الحياة وتُسلعها، أو من الحيادية السلبية في تداول أخبار الموت والفجائع إعلامياً، أو.. أو..
لنصل لنتيجة مفادها: إن الحياة نفسها هي الحدث العرضي، وليس الموت، في ظل استمرار هذه السياسات وتكريسها، وفقاً لمصلحة المستفيدين منها، وبما ينسجم مع طبيعتهم الاستغلالية، من أجل زيادة أرباحهم وكي يعيشوا مزيداً من الترف، وليمارسوا المزيد من الضغوط والجبروت على حساب معيشتنا وحياتنا وحقوقنا.
وعليه أيضاً، ولكي نعيش الحياة الكريمة التي نستحقها، ولكي تصبح لحياتنا أهمية وقيمة ومعنى، لا بد من تجاوز وتغيير تلك السياسات التي تعيش وتتغذى على موتنا بمُختلف الأشكال والتسميات والمسببات والأدوات، كما على فجائعنا ومصائبنا ونكباتنا، فمطلب الحياة والحق بها أصبح يقتضي الآن أكثر من أي وقت مضى، القضاء على هذه السياسات.
فإما نحن لنعيش الحياة مثبتين أنها ليست حالاً عرضياً، أو تلك السياسات التي تستنزفنا لتقضي علينا تباعاً، معيشياً ونفسياً وفكرياً