اتفاقات المصلحة الوطنية وتحييد المدنيين
انخفضت معدلات نزوح أهلنا من بلدات الغوطة الشرقية بشكل لافت، نتيجة الاتفاقات التي تم التوصل إليها برعاية الجانب الروسي مؤخراً، بعد أن اشتدت العمليات العسكرية في المنطقة خلال الفترة القريبة الماضية، والتي كانت سبباً في نزوح عشرات الآلاف من الأهالي في المنطقة.
العدد الإجمالي للنازحين من أهالي بلدات الغوطة الشرقية قارب الـ 100 ألف، ويغلب على هؤلاء النساء والأطفال، الذين فرض عليهم النزوح لانعدام فرص الأمان، وقد تم استقبالهم في مراكز الإيواء التي تم تخصيصها من قبل الدولة.
تقارير
تقاطعت التقارير السياسية والإعلامية الأخيرة حول مفاوضات جرت وتجري في الغوطة الشرقية بين كل من: (مسلحي «جيش الإسلام»، ومسلحي «أحرار الشام»، ومسلحي «فيلق الرحمن») بشكل منفصل، من طرف، وبين الجانب الروسي وبرعايته وضمانته، بالتنسيق مع الدولة، من طرف آخر.
يشار إلى أن مسلحي «فيلق الرحمن» كانوا قد رفضوا سابقاً الخوض في أية مفاوضات من شأنها التوصل لاتفاق حول وقف إطلاق النار وتكريسه، وتجنيب المدنيين المزيد من المآسي والملمات، عبر تحييدهم عن دائرة الصراع وانعكاساتها على أمنهم واستقرارهم ومعاشهم، مما أدى لاشتداد المعارك مع هؤلاء المسلحين، والنتيجة: أن غالبية موجات النزوح الجماعي كانت من البلدات التي كانت تحت سيطرة مسلحي «فيلق الرحمن»، وآخرها كانت بلدات (حمورية_ كفر بطنا_ جسرين_ سقبا_..).
بينما كانت أعداد النازحين أقل من بلدة (حرستا) التي يسيطر عليها مسلحو «حركة أحرار الشام»، حيث رشح أنه جرى اتفاق يقضي بوقف إطلاق النار، مع توفير عوامل الأمان للمدنيين فيها، من خلال استعادة الدولة لسيطرتها عليها، وخروج المسلحين منها، ما يؤمن لأهلنا إمكانية استعادة حياتهم، مع توفير مستلزماتها وضروراتها، وقد تم تنفيذ هذا الاتفاق وأُعلنت حرستا خالية من المسلحين رسمياً.
وهناك تسريبات إعلامية تقول: أن هناك اتفاقاً مشابهاً يتم الإعداد له والعمل عليه بما يخص مدينة دوما المسيطر عليها من قبل مسلحي «جيش الإسلام»، بحيث يقضي بتكريس وقف إطلاق النار، وبأن تعود الدولة لممارسة دورها ومهامها وواجباتها فيها، مع بعض البنود الأخرى التي تضمن أمن وسلامة المدنيين ومعاشهم وخدماتهم.
مفاوضات بالرعاية الروسية
المفاوضات التي جرت والتي يتم الحديث عنها بالرعاية والضمانة الروسية، ودون الخوض بمفرداتها وحيثياتها الكثيرة، المعلن عنها أو السرية، تفضي من حيث النتيجة المتوقعة مبدئياً إلى ما يلي:
_ تحييد المدنيين عن دائرة الصراع وتجنيبهم ويلات الحرب والمعارك الدائرة.
_ تكريس وقف إطلاق النار في المنطقة، تنفيذاً لاتفاقات مناطق خفض التصعيد، والقرارات الدولية.
_ استعادة الدولة لمهامها وواجباتها في هذه المناطق بما يؤمن الخدمات العامة والمزيد من عوامل الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لأهلها.
_ تثمير الاتفاقات بشكلها النهائي بما يتوافق مع مسيرة الحل السياسي الناجز المرتقب.
مصلحة أهلية
مما لاشك فيه، أن الاتفاقات التي تمت، والتي نفذ بعضها على أمل استكمالها، هي الخيار الأفضل بالنسبة لأهلنا من المدنيين في بلدات الغوطة الشرقية، خاصة وأنها توفر لهم عوامل الأمان عبر تكريس اتفاقات وقف إطلاق النار، ما يمنع عنهم الاضطرار للهرب نزوحاً من بيوتهم بحثاً عن الملاذات الآمنة نتيجة المعارك، وبقائهم فيها محافظين عليها وعلى ممتلكاتهم، وهو ما يعني بالمحصلة: بداية الاستقرار الآمن المفقود منذ سنين مع انعكاساته السلبية على حياتهم ومعاشهم، وعسى يتمكنوا من استعادة حياتهم الطبيعية وممارسة دورهم الاقتصادي الاجتماعي مجدداً، خاصة مع استعادة الدولة لمهامها في هذه البلدات عبر جهاتها الخدمية الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن هذه الأشكال من الاتفاقات سبق وأن أثبتت جدواها وفاعليتها من خلال تطبيقها في الكثير من المناطق في البلاد، مع عدم إغفال أن هذه الاتفاقات تخفف الكثير من الأعباء على الدولة وجهاتها العامة كذلك الأمر، وتخفض من الإنفاق العام على الخدمات والبنى التحتية أيضاً.
العودة ضرورة وطنية
على الجانب الآخر لا بد من الإشارة إلى ضرورة تأمين متطلبات عودة أهلنا النازحين إلى بلداتهم وبيوتهم، سواء من نزح مؤخراً من بلدات الغوطة الشرقية، أو من سبقهم نزوحاً من غيرها من البلدات والقرى التي استعادت الدولة السيطرة عليها خلال السنوات السابقة، وذلك عبر تذليل كل العقبات التي تحول دون تلك العودة، خاصة في ظل الواقع البائس والمزري الذي يعيشه هؤلاء، سواء داخل مراكز الإيواء أو خارجها، مع تأمين متطلبات الحياة والمعيشة والخدمات كافة إلى هذه البلدات، بما يسهل على أهلنا سبل العيش الكريم، حيث لا يمكن الحديث عن عودة الاستقرار والأمان إلى الوطن بمعزل عن عودة جميع النازحين إلى بيوتهم، كي يعودوا إلى حياتهم الطبيعية ويمارسوا دورهم الاجتماعي الاقتصادي المفترض، خاصة وأن الكثير من البلدات والقرى سبق وأن جرى الحديث عن إمكانية عودة أهلها إليها، وتم إطلاق الكثير من الوعود الرسمية بهذا الإطار، دون أي تنفيذ عملي على هذا الجانب حتى الآن، بل ودون أية تبريرات مقنعة، وما زال الأهالي بالانتظار..
ولعل إغلاق ملف عودة النازحين بات ضرورة وطنية ملحة، ليس من أجل مصلحة الأهالي واستقرارهم، ولا من أجل تثمير الاتفاقات فقط، بل والأهم من ذلك هو إخراج هذا الملف من حيز التجاذب السياسي والإعلامي، محلياً وإقليمياً ودولياً، والتأويلات ذات الطابع التحريضي بالضد من المصلحة الشعبية والوطنية على هامش وبعمق هذا الملف الهام.
وريثما يتم تأمين متطلبات عودة الجميع إلى قراهم وبلداتهم، فإن الضرورة تقتضي أيضاً: أن يتم توفير مستلزمات العيش الكريم داخل مراكز الإيواء التي تم استقبال النازحين فيها مؤخراً، وخاصة ناحية تخفيف الاكتظاظ عبر افتتاح مراكز إيواء إضافية للأعداد الكبيرة من أهلنا النازحين، مع تأمين الاحتياجات الإنسانية كافة في هذه المراكز، وخاصة ناحية الغذاء والصحة والدواء، مع المراقبة الجدية والحازمة تجاه الممارسات السلبية من قبل البعض من المسؤولين والمتنفذين، التي من شأنها استغلال وضع أهلنا النازحين على حساب احتياجاتهم وكراماتهم.
ولعل الضرورات الأهلية والشعبية سابقة الذكر، مع غيرها من الضرورات الأخرى، من الناحية العملية تمثل مصلحة وطنية كنتيجةٍ ومآلٍ.
أخيراً، يمكننا القول: إن نتائج مثل هذه الاتفاقات بالمجمل، بالإضافة إلى أهميتها على مستوى حقن الدماء وتحييد المدنيين عن دائرة الصراع، وتوفير عوامل الأمن والاستقرار لهم، وتحدّ من الدمار نتيجة العمليات العسكرية، فهي تتوافق من الناحية العملية مع مخرجات أستانا، والقرارات الدولية ذات الصلة، والأهم بأنها تتوافق مع المصلحة الوطنية المتمثلة بالحل السياسي وفقاً للقرار 2254 نحو التغيير الديموقراطي الجذري والعميق والشامل، كتعبيرٍ عن توافق المصلحتين الشعبية والوطنية معاً.