محافظة دمشق.. مزاد على الموت!
ظهرت إمكانية محافظة دمشق على الفرز الطبقي في مقابر العاصمة، بالمقابل فقد غابت هذه الإمكانية عن تحديد أسعار بدلات إيجار البيوت فيها، أما على مستوى بعض الخدمات فقد بات الفرز الطبقي واضحاً جهاراً نهاراً.
لقد أصدرت محافظة دمشق مجموعة من القرارات تتضمن زيادة في بدل الرسوم لقاء الدفن في مقابر العاصمة، والذي تبين من خلالها أن المحافظة تتعامل مع الأموات من أبناء العاصمة حسب مكان الدفن وفقاً لأربع شرائح طبقية، فمقبرة الدحداح وسط العاصمة هي الأعلى في الرسوم، تليها مقبرة باب صغير، ثم مقابر (الميدان_ الدقاقة_ كفرسوسة_ المزة_ شيخ رسلان_ القابون_ برزة_ جوبر_ القدم)، وأخيراً مقابر ركن الدين والمهاجرين.
رسوم الدفن بدأت من مبلغ 50 ألف ليرة، وصولاً لمبلغ 150 ألف ليرة، حسب الشريحة المعتمدة من قبل المحافظة، كما زادت رسوم التنازل للورثة أو الأقارب على المبدأ التشريحي نفسه أعلاه، وكذلك الرسوم المتعلقة بمعاملة الدفن كلها، لدى مكتب دفن الموتى، وغيرها من الكلف الأخرى.
دفعٌ باتجاه التخلي عن ملكية القبور
كحال أية جهة عامة تسعى لزيادة إيراداتها عبر الرسوم وغيرها، ووفقاً لمبررات ومسوغات مختلفة، ليس من المستغرب أن تسعى المحافظة لزيادة إيراداتها، عبر هذا الشكل من التقسيم المناطقي، سواء عبر رسوم الدفن، أو عبر رسوم التنازل وغيرها من الرسوم الأخرى، ووفقاً لما يمكن تبريره على أنه بعضٌ من العدالة المرتبطة بأسعار العقارات في هذه المناطق، فيما غابت هذه العدالة في المحافظة على مستوى دورها في تسعير بدلات الإيجار أو أسعار العقارات والبيوت، والتي زادت من درجات الاستغلال وعمقته لمصلحة تجار العقارات وسماسرتها، على حساب المفقرين.
والنتيجة، أن أقل تكلفة للدفن في مقابر العاصمة أصبحت لا تقل عملياً عن 100 ألف ليرة، يعجز مقابلها فقراء الحال والمعدمون عن تسديدها غالباً، مما يدفع هؤلاء للتخلي عن ملكية قبورهم وبيعها تباعاً، خاصة في ظل ارتفاع أسعار القبور خارجاً عن المألوف.
توزع جغرافي وفرز طبقي
ما من شك أن توزع المقابر في العاصمة شأن موضوعي تاريخي قديم، وهي مرتبطة مكانياً وفقاً للتوزع الجغرافي للسكان تاريخياً، وغالبية مقابر العاصمة عمرها من عمر المدينة، والفرز الطبقي على مستوى أسعار العقارات في العاصمة جرى متأخراً جداً على إثر تفاوت أسعار العقارات في المناطق، وفقاً لأليات العرض والطلب وتحكم التجار والسماسرة، في ظل غياب دور الدولة على مستوى مهام السكن والإسكان، وخاصة خلال العقود الأخيرة، وتبعت ذلك زيادة في أسعار القبور وفقاً للمناطق كنتيجة حتمية، وذلك بسبب الزيادة الطردية في أعداد السكان في العاصمة بشكل عام، مع غياب خطط توسيع المقابر الموجودة، أو إنشاء مقابر جديدة، باستثناء مقبرة نجها المحدثة خارج العاصمة.
ففقراء العاصمة ومحدودو الدخل موزعون في مناطقها وأحيائها كلها، حالهم كحال أغنيائها، وخاصة في أحياء وسط المدينة، ربما باستثناء بعض المناطق التي أصبح الفرز الطبقي فيها واضحاً وحاداً، وخاصة خلال العقود الأخيرة على مستوى استقطاب المترفين من أصحاب الثروات في بعض الأحياء، وتمركز فقراء الحال والمعدمين في أحياء ومناطق أخرى، وهذا الفرز ليس على مستوى ملاءة القاطنين، ومعدلات دخولهم ومستويات معيشتهم، بل على مستوى الخدمات التي تقدمها المحافظة لهذه المناطق والأحياء، بين خدمات نخب أول، وخدمات نخب ثانٍ وثالث حسب الحال، والذي يبدو أكثر وضوحاً في مناطق المخالفات والعشوائيات التي توسعت وانتشرت على أطراف المدينة خلال الفترة نفسها.
العاصمة لأغنيائها فقط!
واقع الحال يقول: إن فقراء الحال والمعدمين في العاصمة، على الرغم من امتلاكهم للقبور، والتي تعتبر بغالبيتها إرثاً تاريخياً أباً عن جد، إلا أنهم سيكونون عاجزين عن تسديد المبالغ والرسوم التي فرضت المحافظة زيادتها مؤخراً عند وفاة ذويهم، ما يعني أن هؤلاء هم الخاسرون أولاً وآخراً من خلال توجهات المحافظة، التي تبدو عدالة حضورها متعددة الأوجه والأشكال.
والمصير المحتوم لاستمرار هذا الشكل من الفرز يعني أن مقابر العاصمة، كما بيوتها وعقاراتها، ستغدو تباعاً لأصحاب الثروة فيها، بينما فقراؤها مصيرهم العيش المؤقت في مناطق المخالفات والعشوائيات، تمهيداً لوصولهم أمواتاً إلى مقابر نجها.
أخيراً، ربما نقول: إن توجهات الفرز الطبقي الجاري بشكل عام، على المستوى الرسمي وغير الرسمي، تتعمق ساعيةً للوصول حتى إلى نقي عظامنا بعد تحللها استغلالاً، فهل من حيف وظلم وطبقية أكثر من ذلك؟!.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 833