طلاب المعهدين المسرحي والموسيقي: الصمت يواجه الصمت!

لم يبق أحد ممن يمر يومياً على طريق المعرض إلاّ ونظر على مجموعة من طلبة المعهد العالي للفنون المسرحية والموسيقى، الجالسين على الأرض أمام المعهد، شباب يعتصمون بصمت، احتجاجاً على المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، احتجاجاً على الصمت العربي المطبق، يقابلون الصمت بصمت من نوع آخر صمت قد يقول الكثير ويبرز أعلى من أي صوت في زحام ضجيج منابر الحكام العرب الذين يبررون كل تخاذلهم.

البداية:
بدأ الأمر مع ورقة علقت في المعهد العالي تعلن عن بدئ ما سمي بـ (جلوس صامت) في السادس من نيسان لطلاب المعهد بما لا يتعارض مع الدروس، بالتناوب ما بين الطلبة. هكذا بدا الأمر، ثم راح الطلبة يجمعون مبالغ بسيطة من طلبة المعهدين لشراء اللافتات، الأقلام، الألوان، والأعلام، ومع مجيء يوم السبت في السادس من نيسان، أخرج الطلبة أغراضهم، ليجلسوا على الأرض رافعين الأعلام السورية والفلسطينية عالية إلى السماء راسمين العلم الإسرائيلي على الأرض ليدوسه الجميع، مالئين أسوار المعهد الخارجية بلافتات كتبت عليها عشرات العبارات، منها (الجريمة إسرائيلية والسلاح أمريكي- وتوقفوا عن قتل الشعب الفلسطيني- شكراً لحكومات مصر، الأردن، المغرب، قطر )المهرولون( - حاصر حصارك لا مفر- الآن ..الآن وليس غداً أجراس العودة فلتقرع) .

لم يكن في بادئ الأمر الكثير من الطلاب، وذلك قبل أن يتم التنسيق بين الطلاب على التناوب فالاعتصام لم يكن يسعى بأي شكل من الأشكال لإيقاف دوام طلبة المعهد بل كانت إحدى أهدافه أن يستمروا في اعتصامهم دون أن ينقطع الدوام، وسرعان ما تم التسيق بين معظم طلبة المعهد، لكي تجري الأمر دون أي معوقات.

وتكاثر عدد الطلاب وراحت أناشيد كدنا ننساها تعلوا أول الأمر من الحناجر ثم من مسجلة صغيرة تساند حناجرهم، لتكبر بعد ذلك إلى مكبرات صوت كبيرة تسمع كل من يمر أغان كدنا ننساها، لفيروز، أحمد قعبور ،مارسيل خليفة، جوليا بطرس، زياد الرحباني، وأميمة الخليل أغاني ( يا دمه - أنا يوسف يا أبي - تصبحون على وطن - أناديكم أشد على أياديكم)، وأخذ بعض طلبة التمثيل يقومون بأداء بعض الحركات الإيمائية، أو مشاهد حركية راقصة تعبر بأدوات طلبة هذا المعهد عن ما يمكنهم القيام به.

صمت اللون:

بعد فترة استجاب عدد كبير من طلبة كلية الفنون الجميلة لنداء طلاب المعهد ليشاركوهم الاعتصام أمام المعهد، فجاؤوا بأدواتهم إلى أمام المعهد، ريش، ألوان، ورق، لافتات كبيرة، صلصال، (جبصين) ووضعوا أدواتهم وراحوا يعملون يرسمون خريطة فلسطين، فدائيين، حجارة، وإشارات نصر، ويخطون بأقلام عريضة عبرات ملونة بالأخضر الأحمر والأسود، وينحتون تماثيل لمسيح جديد مصلوب، إشارات النصر، أياد تمسك بالحجارة وأغصان الزيتون، ووجوه تفيض بالألم، كل الأعمال الفنية التي اصطفت بهدوء على الرصيف المحاذي لجدار المعهد، كانت تحكي بإيجاز عن مشاعر حقيقية تفيض في الصدور وتحاكي بصدق العذاب الحقيقي للشعب في الأرض المحتلة.

حين يستوي الفعل و الصمت:

بدا كل من يمر في الشارع أول الأمر مستغربين، ماذا يفعل هؤلاء الشباب؟ فتظاهرات ومسيرات الاحتجاج تملأ شوارع البلد وكل يوم هناك مسيرة تضامنية مع الشعب الفلسطيني، فما الذي يريدونه؟! كانت النظرات مليئة بالدهشة والاستغراب وما بين مار ملوح، أو عديم اكتراث، أو من يخرج برأسه من شباك السيارة صارخاً بحقد (ليموت شارون) راحت السيارات تمر لكنها ما إن تقطع أمتاراً قليلة بعيداً عن الاعتصام، حتى تعلوا الوجوه إشارات الاستفهام. إلاّ أنها راحت تنجلي رويداً رويداً مدركة مع مرور الزمن أهمية ما يفعل هؤلاء الشباب.


سألنا الكثير من المعتصمين لماذا الصمت؟ لكن دون إجابة، فقد اتخذ جميع المعتصمين قراراً بألا يدلوا بأي تصريح، ولم يكن الأمر يحتاج إلى كثير من الشرح، كل شيء يحكي ماذا يريدون أن يقولوا.

أحد المارين قال بهدوء أعتقد أن الأمر واضح ولا حاجة لكم بالسؤال، فإن لم يقم هؤلاء الشباب بشيء فإنهم سيذكرون كل من خرج من بيته ناسياً كل ما شاهده على التلفاز بحجم المأساة، وسيرى كل من يمر من هنا أن هؤلاء الشباب يفعلون ما بوسعهم، ولا أعتقد أن التبرعات التي يعملون على جمعها للقضية الفلسطينية، هي الهدف الوحيد بل لكي تبقى فلسطين حاضرة في الأذهان، ربما يشاركون بإزالة تهمة من على هذا الجيل، إنهم يقومون بالأمر بمحض إرادتهم لأنهم يريدون هذا..

النزول الى الشارع..

قساوة الموت المجاني الذي تمارسه الصهيونية المجرمة، طرح الكثير من الأسئلة، وخلق الإحساس بالعجز المطبق ليحاصر الروح ويميت الحلم.. فكان الغضب الذي فتح الشوارع أمام كافة الشرفاء.. احتجاجاً على صمت الحكام وشدة أصوات القذائف الصهيونية.. ولم تعد العزلة والتقوقع مفتاحاً مناسباً للشارع الواسع الذي لايحق لأحد أن يصادره أو يرسمه.. وإن نجحت «ميركافا» شارون بأن تمسح الطرقات الفلسطينية لحين.. فإن طريق الحرية لايعترف إلاّ بوحدة القوى الوطنية دون خوف من وحدة الشارع العريض.. فالخوف والانعزالية هما حصار آخر يماثل الحصار الشاروني، إن لم يكن أدهى وأشد!..

هل يطول الصمت؟؟.. فلتفتح الأبواب والنوافذ علَّ الشمس تغسل غبار الموت لتحلّق كل الطيور في سماء عالمنا الواسع.. ولتغرد الحناجر بنشيد الوطن.. لنحيا دون اختناق...

همسة محبة للمعتصمين الصامتين.. ودون خوف.. افتحوا أحضانكم لمن يشارككم الهم.. فإن ضاع الصوت برهة لن تغيب الحقائق..

معلومات إضافية

العدد رقم:
173