مطبات من يَهُن..
لم تعد غزة تنام، لم يعد يهدهد ليلها البحر، ولم يبق لها غسق أو أذان، مستيقظة من صوت الموت المنفجر في كل بيت ومدرسة ومسجد، الموت الذي يجز الطفولة والعمر البليد ونساء بكين من انتظار رغيف الخبز المملح بجثامين الأبناء الذاهبين إلى الغياب.. إلى الله
غزة مرفوعة الآن على أكتاف البنادق المدافعة عن آخر معاقلنا الشريفة، بعد كل هزائمنا من الفراش إلى المنبر، بعد كل ادعاءاتنا الشبقة عن الفحولة والرجولة، عن البطولة والفروسية، نحن الحمقى الذاهبين إلى الاقتتال من داحس والغبراء إلى مضارب بني عبس.
غزة الآن مزنرة بالنار وعناقيد القتل، لكنها تخفي نحيبها ونزيفها وحنقها، وتصيح في كمد على مترفي العرب الغارقين في لذيذ النوم والطعام والهتاف والبكاء، وتتذكر غزة مدناً سبق أن سقطت بالدموع، مدناً سقطت بالفرجة وانتظار الفرج من القدر... غزة تعرفنا نحن الذين صاحت بنا وبابنها أم أبي عبد الله الصغير: ابك ملكاً كالنساء لم تحافظ عليه كالرجال.
تدري غزة ما نسيناه أو تناسيناه عن سقوط المدن الكبيرة بينما يتفرج العرب البقية على ذبحها، هكذا ماتت قرطبة والحمراء وإشبيلية ومن قبلها صور وصيدا التي حملت ربها ودينها مع (اليسار) إلى طنجة ثم تكررت معها المأساة، تاريخ يعاضد بعضه بالنوم واللامبالاة، تاريخ من النوم التاريخي المكلل بالكذب والمؤرخين الكذبة.
يمر الموت والنوم، الموت على غزة بعد التجويع، الخبز المغمس بمساعدات العالم الإنسانية، هيئة الأمم، الأونروا، الحكاية القديمة إياها (كروت الإعاشة)، النزوح الذي طال نصف قرن، النزوح الذي ذاق أهله الطحين الأسود، مرارات الذل والالتجاء إلى الأخوة والبساتين، هي غزة تذوق الطعام نفسه المغمس بالألم بينما بداة العرب يدفعون الدولارات لشرب نخب في باريس أو فندق من خمسة نجوم، غزة التي تحتاج الآن إلى أموال النفط الذي يصرف في ملاهي الغرب أو العرب الباذخين، في حين يتبرع أمير روتانا بـ 100 مليون دولار لضحايا البرجين، ولا يصمت محطة بغاء كرمى لعيون الأطفال المخترقين بالقنابل العنقودية التي تهديها أمريكا للقتلة.
غزة لا تنام على ذكرياتها، تميد ليالي غزة بصراخ الراحلين إلى الله ودعوات المحبين، ونحن نتظاهر ونحتج وندين في أبعد ما نفعل، من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، تموج الملايين العاجزة سوى عن الصراخ، نتشارك قدر ما تستطيع في لجة إغلاق الأنظمة العربية الأبواب أمامها حتى لا تعتاد مجرد الصياح، ربما يصير الصياح عادة جديدة.
غزة لا تنام على موتها، تصدر الموت للجميع، للقاتل الجبان، ولنا، لنا لكي نعتبر من حصارها وقتلها ووحدتها، لنا نحن مكتوفي الأيدي والأفواه، القادرين على الهتاف، ربما بدأ هاجس الخوف يتسلل إلينا، أولادنا ليسوا بمنأى عن التشظي، عن البكاء، هي دمعة جامدة عند الوداع، غزة تحاصرنا بفكرة الموتى الأحياء، وتحاصر الأعداء بعدواها، الأصدقاء بالخوف، وتفجر في بقية الأحرار صياح الرفض، شكراً للصديق (شافيز).. العربي الأصيل شافيز، الفرق بيننا وبينك أننا لسنا أمة لا تقرأ فقط، ولكن لا تتعلم، أمة لا تتعلم من التاريخ، أمة دق فيها الجبناء أسافين النسيان، فيها الفرعون العنيد، وبقايا (يهوه)، ومدعو السلالات الشريفة.
لا تنام غزة الآن، تصيح فينا (من يهن يسهل الهوان عليه)، كل صياحنا لا يساوي قطرة دم تصنع من غزة قبلة، ركناً للحجيج في حي الشجاعية، بيت لاهية، عبسان، جباليا.. باقي غزة المقدسة، إذا انتصرت غزة يا (نحن) العربان، انتصرت لنا، وإذا سقطت (لا سمح الله) فالنظام الرسمي العربي من أسقطها..
من يهن يسهل الهوان عليه..
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 386