أسعار الثمار والخضار الصيفية تحلق في سماء الانفتاح واللبرلة..

اعتاد المواطنون السوريون على تموجات محددة في حركة الأسواق، تختلف صعوداً وهبوطاً حسب المواسم ودورة الخصب والقحط، وحسب تذبذب مستوى معيشتهم وقدراتهم المالية، فيعمد محدودو الدخل منهم إلى الاكتفاء بالتفرج على بواكير الثمار والخضار عند بدء غزوها الأسواق، وانتظار أن تهبط أسعارها بعد أن يكثر المعروض منها، تاركين لشركائهم في المواطنية شرف السبق في تذوقها وارتشاف زبدتها قبلهم، دون أن يشعروا نحوهم بأي حسد أو ضغينة، وقاعدتهم في ذلك «على قد بساطك مد رجليك».

لكن مع هبوب رياح التغيير التي حملت للأسواق المحلية مفاهيم ومعايير جديدة ترسخت وتوطّدت بعد تبني الحكومة للسياسات الاقتصادية الليبرالية، أصبح رصد الأسواق بالنسبة للغالبية العظمى من الناس أمراً غايةً في الصعوبة، بعد أن شعروا أنه لم يعد يخضع لأي قانون معروف بالنسبة إليهم. فالسلعة راحت تحافظ على السعر الذي حملته منذ بداية الموسم دون هبوط متدرج كما اعتادوا تاريخياً، بل ربما تأخذ بالارتفاع أكثر مع مرور الوقت، والأسوأ أنها ربما تفتقد من الأسواق كلياً في أوج موسمها رغم أنها سورية بامتياز، وإنتاجها «حسب إحصائيات الحكومة»، وكما يُرى بالعين المجردة يتزايد باضطراد عاماً بعد عام..
إذاً، ما الذي يجري؟ ولماذا يحصل كل ذلك؟ ومن يحدد الأسعار؟ وأين تذهب ثمار البلاد وخضارها؟ وهل سنصل قريباً إلى مرحلة يعجز فيها المواطن البسيط عن أكل ما يزرع وارتداء ما يصنع؟ وأي مصير ينتظر الناس مع إصرار الحكومة على انتهاجها السياسات الليبرالية التي أفقرت البلاد وأنهكت العباد؟
 
التصدير.. والاحتكار
في دردشة سريعة مع السيد أبو جمعة، وهو أحد المزارعين الذين يمتلكون عدة دونمات مزروعة كرزاً في منطقة القلمون، أكد لنا أن معظم بساتين الجرود العليا في القلمون، والممتدة من قارة شرقاً إلى سرغايا غرباً مروراً بقرى جراجير ورأس المعرة والمشرفة وعسال الورد والجبة ورنكوس وحلبون وبلودان... يضمن معظمها تجار سوريون وعرب كل سنة، ويدفعون أقساطاً كبيرة من أسعار ثمارها قبل أن تزهر الأشجار.. ومع بداية الموسم تشهد المنطقة حملة واسعة من الشاحنات والبرادات التي تقف منتظرة أن تتم تعبئتها بالكرز والدراق والإجاص والمشمش وغيرها من الفاكهة الممتازة التي لا يوجد نظير لها سوى في سورية.. ليتم تصديرها إلى بلدان مجاورة ودول الخليج العربي ومصر. وهذا ينطبق أيضاً على ثمار سهل الزبداني وغيرها من المناطق ذات الطبيعة المشابهة..
- والسوريون؟ ألا ينوبهم شيء من هذه الثمار؟
يجيب أبو جمعة: «نحن كمزارعين يهمنا قبل كل شيء أن نؤمن رزقنا.. فما نبذله من جهد طوال السنة، من فلاحة وتقليم ورعاية ورش مبيدات وإشعال النار درءاً للصقيع، ليس بالأمر السهل أو الرخيص.. وكثيراً ما ينضرب الموسم فنخرج من المولد بلا حمّص، ولا نجد ما يسد رمقنا، ولا تعوض علينا الحكومة بأي قرش..
أما بالنسبة للأسواق المحلية، فهناك تجار محليون نعرفهم بالاسم يضمنون كميات كبيرة من الفاكهة، ربما تصل إلى مئات الأطنان، ولا يصدّرون ما يشترونه من المزارعين.. ولكن ربما لا يطرحون كل ما يشترونه في الأسواق المحلية دفعة واحدة ليبقوا متحكمين بالأسعار.. وفي آخر الموسم يبدؤون بإخراج المخزون لديهم ويطرحونه للبيع بأسعار أعلى»!!.
والحقيقة أن ما يجري في مزارع ريف دمشق يجري نظيره في معظم المناطق الزراعية السورية، خصوصاً وأن نواظم عمليات تصدير واستيراد الفاكهة والخضار غائبة كلياً، وليس هناك خطط استراتيجية تضبط هذه العملية كماً ونوعاً، كما لا توجد أية أشكال لمراقبة أو محاسبة المخالفين، ويشير كلام معظم الناس إلى أن لهؤلاء المخالفين من يقاسمهم جزءاً من أرباحهم ويسهل لهم احتكارهم في وضح النهار.
 
 صورة مشوهة للعرض والطلب
بعد اعتمادها نهج اقتصاد السوق الاجتماعي (الذي لم يعرف بعد رأسه من رجليه)، بات الجميع يعلم أن الحكومة سحبت يدها بشكل شبه كلي من الأسواق، وتركت لآليات السوق تحديد الأسعار وفق قانون العرض والطلب، أي تركت لقمة المواطنين عرضةً لحفنة من التجار الفاسدين الطامعين بالربح ولو اضطروا لبيع ما لا يباع، فالحكومة ولم تقم بأية خطوات أو إجراءات جدية لقمع ظاهرة الاحتكار، كما لم تعمل ما يلزم لوجود منافسة حقيقية ونزيهة بين التجار، وما يزال حيتان الأسواق المحميون بالنفوذ والسطوة و(الشبيحة) يفعلون ما يحلو لهم على صعيد كميات السلع المعروضة ونوعيتها ومستويات أسعارها، وبذلك أخذ أمراء أسواقنا ما ينفعهم ويخدم مصالحهم من القوانين الليبرالية، وأهملوا، بل وحاربوا ما قد يهدد ثرواتهم واستبدادهم بالأسواق، وبالتالي بلقمة الناس وأرزاقهم.. وللحقيقة فإنه ما من حكومة حول العالم تسمح بأن يمس حق مواطنيها بالحصول على حاجاتهم الأساسية من المأكل وغيره بأي سوء، ولكن ما يجري في الأسواق السورية يبقى- دائماً- خارج كل الخرائط والمسلمات الإنسانية.
أما جمعية حماية المستهلك المجردة من كل أنواع السلاح الكافي لمحاربة الفساد والفاسدين، فتقف متفرجة على كل ما يجري بصمت دون أن تحرك أي ساكن، وأحياناً تكتفي بالإشارة الخجولة، ولكنها وإن اعترضت أو وضعت ملاحظة على ما يجري، فتقوم بذلك بخجل المذنب أو بخوف الضعيف..
 
الأسعار في الأسواق
وفي جولة لنا على الأسواق كان الاستياء الشعبي واضحاً من الأسعار المرتفعة لمواد تسمى أصلاً بـ«الفاكهة الصيفية»، أي أنها تباع في مواسمها الحقيقية وليس التخزينية، فكيف سيكون الحال لو كانت تباع في غير موسمها المعتاد؟
«قاسيون» التقت عدداً من المواطنين، واستطلعت آراءهم حول ارتفاع الأسعار الذي طال جميع ما يحتاجونه ويشتهيه أطفالهم، ورغم الحر اللاذع لشمس الصيف إلاّ أن عرق وجوههم يبرد أمام المحال والبسطات المترامية هنا وهناك، فحتى أصحاب البسطات الذين كانوا فيما مضى ينافسون أصحاب المحال ويكسرون أسعار معروضاتهم باتوا اليوم شركاء في زيادة همّ المتسوقين، فهم أيضاً يبحثون عن الزبون الدسم ليسدوا ثغرات جيوبهم وليملؤوا برادات بيوتهم الصغيرة التي ربما تكتظ بالأفواه أيضاً:  
أم محمد (ربة منزل)، التقيناها في سوق الهال المركزي، فقالت شاكية: «في السابق كنا نأتي إلى هذا السوق لنشتري من الخضار والفواكه ما يكفينا لمدة أسبوع كامل، فكنا نأخذ من كل صنف /4/ كيلو غرام وما فوق، والآن أصبح هذا مستحيلاً، فهذه الكمية بحاجة إلى ثلاثة آلاف ليرة على أقل تقدير، فليس معقولاً أننا قد دخلنا في شهر تموز ومازال البطيخ مثلاً يباع بسعر يتراوح بين 7 و12 ليرة، في حين لم ينخفض سعر كيلو الكرز عن /80/ ل.س!!»
أبو ياسر (موظف): «أمرُّ على السوق يومياً بعد خروجي من عملي، وأصبحت لديَّ خبرة كبيرة بما يجري في الأسواق، وبإمكاني تحديد التغيرات التي تطرأ يومياً على سعر أية سلعة موجودة فيه، حتى أصبح الكل يعرفني هنا». وعندما سألناه عن رأيه بالأسعار المرتفعة، أكد أبو ياسر أن كل الأسعار المعروضة تكون وهمية في أغلب الأحيان، والبائع لن يبيع أية سلعة إلا على مزاجه وبسعره الذي يحدده هو وفق حساباته الخاصة، مهما توسل له المواطن لكي يخفض السعر.
أما أحمد، وهو صاحب بقالية في أحد الأحياء الشعبية، ويأخذ بضاعته من سوق الهال في الزبلطاني، فقال: «نحن نأتي إلى هنا منذ سنوات، ولا نفشي سراً إذا قلنا إن الوضع في سوق الهال يتجه نحو الأسوأ، حيث قد يشهد هذا السوق ارتفاعات جنونية أخرى في أسعار الخضار والفواكه، وخاصةً الصيفية منها». وأكد أن موجة التجار الذين يأخذون البضاعة للتصدير، وخاصةً إلى العراق قد ظهرت مجدداً، وتجار الجملة يسعون لكي ينتزعوا النقود من جيب المواطن دون أن يهتموا بحالته المعيشية، فما يهمهم فقط هو أن يبيعوا بضاعتهم ويربحوا المبلغ المطلوب، وعندما سألناه عن دور جمعية حماية المستهلك في ضبط أمور السوق، رد علينا بكلمتين وضحكة من القلب: «باي باي حبيب».
أبو يونس (تاجر جملة ومفرق): «السوق بكل الأحوال متقلب، ولذا فإننا نضطر أحياناً للبيع بالمفرق حتى نربح، لأن المتحكم بأوضاع السوق هم التجار الكبار الذين يأخذون البضاعة من الفلاح بأرخص الأسعار، ويعطونها لنا بالسعر الذي يريدونه». وعندما سألناه عن الفرق بين التاجر الكبير والتاجر الصغير في السوق، قال: «لن أبين لكم الفرق بينهما بشكل مباشر، ولكنني سأعطيكم معلومة خطيرة عليكم التأكد منها بأنفسكم، وهي أن معظم التجار الكبار قد قاموا بإنشاء برادات كبيرة في بساتينهم، يصل طول الواحدة منها إلى 50 متراً، لحفظ هذه المواد ثم بيعها في أوقات ومواسم غير موسمها، ليربحوا بذلك أرباحاً طائلة».
كما يلفت النظر ولدى متابعتنا لمسألة الأسعار، تبين لنا مدى اختلاف أسعار المواد بين الأسواق الشعبية وأسواق الأحياء الغنية، وقد ارتأينا إجراء مقارنة بين الأسعار في أسوق «حي الشيخ محي الدين» ونظيرتها، سوق حي الشعلان «سوق التنابل» وسنبين فيما يلي الاختلاف بين كليهما، مع ملاحظة أن نوعية السلعة تختلف كلياً من حيث الجودة بين السوقين، لصالح السوق (الراقي):
البطيخ /7 ـ 12/، الدراق: /40 ـ 100/، تفاح سكري /35 ـ 100/، تفاح أخضر /30 ـ 75/، أجاص /40 ـ 60/، موز /60 ـ 75/، مشمش /30 ـ 65/، خوخ أصفر /35 ـ 80/، خوخ أحمر /35 ـ 100/، أناناس /15 ـ 25/، الكرز /90 ـ 175/، تفاح أحمر /75 ـ 175/..
 
خاتمة غير سعيدة
السوريون متخوفون بشدة مما يجري.. ربما للمرة الأولى منذ زمن طويل، فرغم مرور البلاد بمحن كثيرة من قبل، اجتماعية واقتصادية وسياسية، إلا أن الناس كانوا يتنعمون بخيرات أرضهم على أقل تقدير، يأكلون من ثمارها وخضارها ويشربون ماءها، ويكتسون من صوفها وجلودها ونسيجها، أما اليوم فالمسألة مختلفة.. الراتب إن وجد فلا يكفي.. والعمل غير متوفر للجميع.. والعلم يكاد يصبح حصرياً للأغنياء والميسورين.. والصحة والضمانات والأرزاق توشك على الانفلات من بين الأصابع.. فماذا بعد؟؟؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
412