لماذا التعالي على الحوار؟
عندما قرأت افتتاحية جريدة «قاسيون» أعيدوا الحزب إلى الجماهير في العدد 163 تاريخ 22/11/2001، ورد في ذهني سؤال بسيط: لو كتبت هذه المقالة الافتتاحية قبل خمس سنوات، لو قدمت كورقة عمل إلى إحدى اجتماعات اللجنة المركزية، لو طرحت أثناء الإعداد للمؤتمر التاسع، لكان لها دور ملموس في إنقاذ الحزب من الحالة الراهنة، التي يمكن تشخيصها بكل بساطة بالتمزق الأفقي، وهذه أخطر حالة يمر بها الحزب الشيوعي السوري، سواء اعترفنا بها أو بقينا نتكبر عليها، لأنها حالة تهدده من الجذور.
منذ أكثر من ربع قرن يقال في هذا الحزب ما يجب أ ن يقال، ولكن بعد فوات الآوان. أي بعد أن يتخندق أعضاء الحزب في صراعات تدمي جسد الحزب، وترافقها جملة من المصطلحات البائدة وبعض الشتائم المعاصرة، التي تملك قوة القطيعة أكثر من اختلاف الآراء والأفكار.
في السابق، كان من يحصل على اعتراف الحزب الشيوعي السوفييتي يصبح هو الشرعي، بغض النظر عن الوسائل التي يستخدمها في السيطرة على القيادة، ويمسي كل من يقول عندئذ «وقائع إدانة» دامغة ضد المخالفين معه. واستخدمت هذه المعارك الحزبية (ومازالت) مقولات وتشبيهات في الحركة الشيوعية العالمية مثل البلشفية والمنشفية، التروتسكية، البليخانوفية، الكاوتسكية، الماوية...إلخ بهدف الإجهاز السريع من ناحية، ومن ناحية أخرى لسهولة استخدام المنطق النصوصي والاجتهادات المفتعلة للمقارنات، وغالباً لم يكن يعرف معظم الرفاق حقيقة تلك المصطلحات.
والآن من أين ستأتي الشرعية بعد أن تغير الحزب الشيوعي السوفييتي؟ وبالمناسبة لم يستشر أحد الجماهير السورية في كل تلك الأزمات، بل كان موقفها مُديناً لما يحدث، أو معاتباً، كما قال خالد بكداش.
وإذا كانت الأزمات السابقة لها خصوصيتها المعقدة والتي تحتاج إلى تحليل موضوعي أعمق، فوراء الأزمة الراهنة عاملان أساسيان:
الأول هو عدم إمكانية استمرار الحزب كالسابق فكرياً وتنظيمياً وسياسياً .وهذا ما أدركه البعض عند الإعداد للمؤتمر التاسع، بل لم تكن أغلبية القيادة على مستوى هذه الرؤية. لقد اعتقد البعض أن خالد بكداش صاغ للحزب سياسة على مدى قرن أخر، ومن هنا برزت ديماغوجية المتاجرة «بالبكداشية». واعتقدت هذه الجماعة «البكداشية» أن الاجتهاد الفكري والسياسي اختتم بخالد بكداش. وما يؤكد أن الأخير بريء من هذه العقلية السكونية، فقد قال في لقاء غير رسمي معه في بيته قبل وفاته بعدة شهور، وبحضور بعض أفراد عائلته: «إن المهمة الأساسية اليوم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أمام حزبنا هي النضال بالدرجة الأولى على الجبهة الفكرية».
أما العامل الثاني فيكمن في تفاعلات المجتمع السوري والتغيرات البنيوية العميقة التي جرت فيه، وظل الحزب يتعامل معها إما على الشكل السابق أو بطريقة ارتجالية. وفي الحالتين يظهر مدى سكونية الفكر الماركسي اللينيني في عقول الغالبية العظمى من القيادة الحزبية أمام تغيرات الواقع. فعند دراسة التقارير الحزبية في السنوات الأخيرة خاصة، نجد أن المجتمع السوري وكأنه ثابت على بنيته دون تغير متحدياً الزمن وجدلية الحركة.
وهكذا أعتقد أن ما جرى مؤخراً في الحزب الشيوعي السوري شيء طبيعي. فأثناء الإعداد لوثائق المؤتمر التاسع، كان التفكير الكلاسيكي النصوصي، هو السائد. ولعل أعضاء لجنة صياغة الموضوعات للمؤتمر يتذكرون الخلافات حول فقراتها وحتى حول محتوى بعض الموضوعات. بل إن بعض الآراء المشابهة لما وردت في هذه الافتتاحية التي نحن بصددها قمعت بفظاظة في اجتماع اللجنة المركزية التي أقرت الموضوعات، وحتى التعديلات الطفيفة التي طلبت اللجنة المركزية إدخالها إلى الموضوعات أهملتها لجنة الصياغة النهائية، وظهرت الموضوعات بالصيغة نفسها كما عرضت على اللجنة المركزية.
أكرر ما أعتقده حقيقة موضوعية, وهي أن ما جرى ويجري في الحزب الآن تفرزه بنية الحزب المتوارثة عبر العقود. هذه البنية التي فرزت صيغة شبه قانونية تعطل فاعلية أية محاولة تسعى لإخراجه من السكونية والنصية التي تهيمن على العمل الحزبي وعلى الاجتهاد الفكري والسياسي.
لقد أصبح معروفاً أنه لم ينتصر طرف في الحزب إلا بالوسائل التكتلية، بغض النظر من كان على الصواب سياسياً وفكرياً. وقد رافق المدح الكبير للأسس اللينينية في التنظيم والتقديس المبجل للمركزية الديمقراطية أكثر الأساليب خرقاً لها. بل لم يعتمد أحد من القياديين في الصراعات الداخلية على النظام الداخلي، الذي بقي على الرف مثل دساتير العالم الثالث.
حدثت في المؤتمر التاسع قصة طريفة ولكنها تجسد حالة القيادي المستلب. فأحد الأفراد القياديين في القيادة السابقة و الراهنة كان على حافة الرسوب أثناء فرز الأصوات، وكنت واقفاً معه عندما جاء أحد الرفاق من المنظمة التي كان يقودها هذا القيادي ، وقال له:ماذا يجري أبو... فأنت في عداد الراسبين. فرد عليه هذا القيادي السابق والراهن حرفياً: إنهم يريدون تابعين ومن لا يتكلم، ويقصد بالضمير الذي ينوب عن الفاعل أولئك المسيطرين على الحزب. وعندما نجح الأخير لعضوية اللجنة المركزية والمكتب السياسي، سمعت فيما بعد أنه يتكلم عن الديمقراطية الواسعة التي سادت المؤتمر في اجتماعات الكادر.
لقد كان الوضع المتردي في الحزب يبقى مستوراً لغاية كل مؤتمر، وفي المؤتمر تكشف المشكلة الحزبية الجديدة مدى التآكل الداخلي في الحزب في الفترة ما بين المؤتمرين. (وكما هو معروف، ففي كل مؤتمر للحزب منذ المؤتمر الرابع توجد مشكلة).
وأخيراً بينت علنية الجريدة ومسألة تطوير الجبهة الوطنية التقدمية حقيقة ما كان يجري داخل الحزب منذ سنوات، ولاسيما في المؤتمر التاسع. لقد كان الوضع السابق للجريدة يستر إمكانيات الحزب الفعلية. واعتقد أن «صوت الشعب» لم تستقطب أقلاماً جديدة بل لم تخرج من معطف «نضال الشعب» التي كانت تتناسب مع وضعها النصف علني، ولهذا جاءت «صوت الشعب» متخلفة عنها، أقصد أن الجريدة العلنية جاءت لتؤكد مدى الفقر الفكري والسياسي الذي تجسده القيادة الراهنة التي تتقن اللعنات بدل الحوار كلغة للقرن الجديد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 165