البسطات في سورية.. اقتصاد ظل وأكثر الدولة «تحترم» العاملين في اقتصاد الظل.. لكنها لا تحتسبهم

لا نتميز عن الكثير من دول العالم في كوننا بلداً يشكل فيه اقتصاد الظل نسبة كبيرة من الاقتصاد الوطني، وفي الهدر وفوات الملايين من الدولارات، بالإضافة إلى النتائج الاجتماعية المدمرة التي يعكسها تنامي هذه الظاهرة. وما من شك أننا كمعظم بلدان العالم ندفع فاتورة هذا الشكل الاقتصادي، لكن الغريب أننا على غير الكثير منها مازلنا ننظر إلى هذه المعضلة كما لو أنها بحث اقتصادي، مع عبارة يستحق الانتباه له، فالفريق الاقتصادي مازال يُهمِّش هذه السوق الواسعة، رغم اعترافه بها، وبما يمكن أن تشكله من أخطار إذا بقيت الأمور على عواهنها، أو تمت معالجة هذه الظاهرة الكبرى ككل القضايا الاقتصادية، التي حمل عبء حلها الفريق الاقتصادي، فآل اقتصادنا إلى ما هو عليه.. مواطن فقير.. شركات تنهار.

في التعريف.. وعلى الأرض
في التعريف: اقتصاد الظل هو مجمل الأنشطة الاقتصادية غير القانونية التي تتم خارج دائرة التشريعات التي تضعها الدولة، ولا تلتزم بمعاييرها، بغض النظر عن كونها أنشطة مشروعة أخلاقياً واجتماعياً أم لا. ومن هنا نستطيع أن نرى هذه هي السوق التي تعيش في العالم السفلي والأرصفة.. وفي الظل، حيث كل ما يدر المال يدور في العتمة وفي الأقبية، ويحدث ما يمكن أن يلحق الأذى بشرائح كبيرة يمكن استثمارها مادياً، ويؤدي إلى قتلها رويداً رويداً، لتصبح مكاناً يصلح فقط لتعتاش عليه الديدان ومن يشغّلها.
في السنوات الأخيرة، ونتيجة للسياسات الخاطئة في العمل الاقتصادي المؤسساتي، وازدياد البطالة والفقر، والبحث عن فرصة عمل حقيقية غير متوفرة، استفحلت فرص نمو هذا الاقتصاد، الذي بات يشكل حسب الإحصاءات والدراسات الاقتصادية 40% من الناتج الاقتصادي، ويرجح البعض من غير المتفائلين وصول نسبته إلى 60%.
أما على الأرض وخارج لغة النسب والتوقعات، تتوضح الملامح الكبيرة لتعاظم هذه السوق، فيمكن على سبيل المثال استثناء بعض الشوارع من البسطات التي تفترش الأرصفة، ولكنها لا تخلو من مظهر آخر للسوق المنسية كالدعارة وبيوتها، وفي أذلها ماسح أحذية يدور. حيث تبدو كل الشوارع مهيأة لتكون مظلة لسوق جديدة، بسطة جديدة تضاف لو قدر لها الإحصاء في كل دقيقة أو ساعة، وهنا تتنوع البضائع. لا يمكن لك أن تبحث في هذه السوق عن سلعة لا تجدها، من الألبسة إلى قطع المعدات الكهربائية، قطع الإصلاح، الخضراوات، الأحذية، الألبسة الداخلية النسائية، الدخان بأنواعه، اليانصيب، التسول المدروس والممنهج كمهنة لا كحاجة، عارضات الجسد.. إلخ.
هذه الأسواق تطورت لتأخذ صفة الاختصاص، ففي سوق الجسر الأبيض على سبيل المثال أخذت البسطة اختصاص الألبسة والهدايا، كذلك شارع لوبية في مخيم فلسطين يقصده الناس للتبضع في المناسبات وسواها بحثاً عن الألبسة والعطور. بينما بعضها صارت أسواقاً للخضار كما في المخيم وساروجة والبرامكة، أما في شارع الثورة فتتنوع الحال في سوق الحرامية لتجد كل شيء، وفي الآونة الأخيرة صارت القطع الغالية لزبون جديد.

الألبسة.. سوق ظل بديل
لنقاش الظاهرة بشكل موسع سنبحث كمواطنين عن سلعة لا يمكن الاستغناء عنها، للمستهلك الأكبر الذي تناسبه البضاعة، وفقاً لدخله المحدود وعدده، وهنا يبدو المستهلك بشكل الموظف والمثقف والعاطل عن العمل.... المواطن السوري.
بسطات تنام على الأرصفة في سوق المناسبات، الأعياد، وحتى الطارئ منها على السوريين كعيد الحب، أعياد الميلاد والمناسبات العائلية الخاصة.
يعتقد الباحثون الاقتصاديون أن تشكل هذه البسطات جاء نتيجة لغياب السوق الحقيقية، هذا الغياب الناتج عن ابتعاد الزبون عنها نتيجة الغلاء والاحتكار وتفرد التاجر بالقرار، في ظل غياب القرار الرقابي الحاسم بين المواطن والتاجر، فالتاجر هو الذي يسعّر، وهو الذي يفرض شكل التعامل بعد أن تخلت الدولة عن دورها كوسيط نزيه بين الطرفين.
يرى الدكتور الياس نجمة في أسباب انتشار السوق البديلة: (انتشر كالسرطان في الجسم الاقتصادي، عندما كان كل شيء ممنوعاً، فعندما نمنع استيراد حاجات أساسية وتغيب السوق الحقيقية، تنبعث الأسواق السوداء).
 وكذلك يرى د. نجمة الدور الحكومي الغائب كسبب رئيس: (حالة التخلف الاقتصادي العام في سورية، ووجود طبقة بيروقراطية عقيمة تتمتع بضآلة لا نفاذ لها، عممت الجهل بالإدارة، والفساد بالمعاملات، وجعلت الدولة مؤسسة لنقل الثروة لها عملياً).
أما عن بنية السوق القديمة الغائبة التي كانت لفترة طويلة تبدو كسوق اشتراكية يقول د. نجمة: (لم يكن لدينا اقتصاد اشتراكي، كان لدينا اقتصاد متخلف، وفي جزء كبير منه ينخره الفساد).
من مثال الألبسة، ننطلق لنرى أن المعادلة يحكمها  قانون غير واضح الملامح للوهلة الأولى، ولكن بالتدقيق قليلاً نلاحظ انتقال جزء ليس بالقليل من التجار إلى ممارسة اقتصاد ظل في الخفاء، والعمل على توسعته، فمعظم البسطات التي تتمركز أمام المحلات إنما يديرها صبيان المحلات والتجار، وهذا يتجلى في أسواق الصالحية والحميدية بشكل سافر.
أما كيف تتم حماية هذه الأسواق التي يتواطأ التجار في بقائها وازدهارها، فهنا لا يمكن أن نفوت على أنفسنا فرصة اتهام الجهاز الإداري الذي تمثله البلديات وفي الدائرة الأكبر المحافظة، فهي تقوم بدور وحيد وبليد، مطاردة سكان هذا الاقتصاد، أما في دورها المركزي البحث عن أسواق بإشرافها تنظم عمل هذا الاقتصاد فيأتي في درجتن أدنى، ما زالت هي تُقبِّض  موظفيها وشرطتها ثمن المطاردة والمصادرة، والثمن الأكبر هو ثمن بقائها واستثمار من يقوم بتوسعتها وحمايتها من خلال البضائع والخبرات.

المشتغلون في الظل
من هم العاملون في هذه السوق المفتوحة، إنهم من يعتاشون خارج إطار العمل القانوني، العاطلون عن العمل، الباحثون عن فرصة عمل (الحياة)، الذين لا تحتسبهم المؤسسات الحكومية من رعاياها، والذين لا تستهدفهم في علاج المشاكل المتعلقة بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية. حيث يقول خلف العبد الله مدير مؤسسة التأمينات الاجتماعية: «هناك العديد من الدول في العالم تصل إلى هؤلاء من خلال تأمين البطالة، إلا أننا لا نعتمد مثل هذا النوع من التأمين، لذلك بات لزاماً علينا الوصول إلى هؤلاء العمال من خلال الرعاية الاجتماعية التي تضطلع بها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، وخلق مناخ وبيئة عمل صحية وشبكة أمان اجتماعي».
هنا لا بد من احتساب الأخطاء التي تتحملها مؤسسات الحكومة بعدم اضطلاعها بدورها الحقيقي، فهذه العمالة هي خارج الاستهداف من حيث الضمانات الاجتماعية والصحية وتأمين العجز والإصابة وسواها. وفي هذا يقول مدير مؤسسة التأمينات الاجتماعية: «إن بقاء هذا الاقتصاد في الظل يفوت على خزينة الدولة الكثير، ويحرم الكثير من العمال من حقوقهم، إذ تشكل العمالة غير المنظمة بحدود 30% من مجموع العمالة وعلى سبيل المثال نحن غير قادرين على الوصول إلى عمال المواسم الزراعية وعمال الحصيدة والعاملين في تربية الأغنام، والبسطات في الشوارع».
المشتغلون في الظل يتفاوتون من حيث العمر والثقافة، ولكن الأمر الذي يعكس خطراً على عملية التنمية والنمو هو أن جل العاملين من الشباب. إذ يشير عدد من البيانات الإحصائية إلى أن أكثر من 50% من المشتغلين في القطاع غير المنظم أعمارهم بين 15-29 سنة، وتؤكد البيانات نفسها أن الأميين أو أشباه الأميين يشكلون 77% من إجمالي المشتغلين بهذا القطاع، الذي يستقطب نسبة كبيرة من عمالة الأطفال.
أما من حيث الثقافة فمن الممكن أن يستحوذ اقتصاد الظل على تدرُّج من الأميين وحتى حاملي شهادات الدكتوراه، ففي دراسة للخبير الاقتصادي حيان سلمان نقرأ الآتي: «إن القطاع غير الرسمي (الظل) في سورية يتميز بأنه يكمل القطاع النظامي الرسمي، وبالتالي فإنه يضم مختلف الشرائح الاجتماعية (من الأميين وحتى شهادة الدكتوراه، ومن الحريقة والسويقة في دمشق وباب الفرج في حلب والشيخ ضاهر في اللاذقية، إلى أقصى قرية من الريف السوري».

الدولة ترى هذه السوق.. ولكن...
من المؤكد أن الدولة تراها، والفريق الاقتصادي أدرى بها، وبسبل علاجها، وهي تدرك مدى ما يُلحقه الظل والمنتفعون به ومنه بالاقتصاد الوطني، ويختلفون فيما تشكله من نسبة، وإن لم تكن النسبة هي القضية.
وزير المالية د. محمد الحسين نفى صحة ما تورده الصحف الاقتصادية والدراسات عن حجم اقتصاد الظل وما يشكله من جسم الاقتصاد الوطني، لكنه يعترف بوجوده قائلاً: «في سورية كما غيرها، بالتأكيد يوجد ما يسمى باقتصاد الظل أو الاقتصاد غير المنظم، ولكننا نختلف حول نسبته، فما يشاع في بعض وسائل الإعلام أنه يقدر بـ40% من الاقتصاد السوري فهو رقم غير دقيق، ولم تقم أية جهة بمحاولة قياسه، وهذا الرقم تخميني، فقد قامت وزارة المالية خلال العامين الأخيرين بمسح شامل للمكلفين غير الخاضعين للضريبة نتج عنه إضافة مكلفين ضريبيين بلغت نسبتهم حوالي 25%  من إجمالي عدد المكلفين النظاميين، وهؤلاء غير المنظمين جرى تنظيمهم ضريبياً، لذلك فنحن نعتقد، وفق هذا المؤشر وهو مسح وزارة المالية، أن القطاع غير المنظم يقدر بحوالي 30%. وكما ذكرنا فإن المكلفين غير المنظمين جرى تحويلهم إلى قطاع منظم من الناحية المالية والضريبية، أما تنظيمهم اقتصادياً وإحصائياً فهذه مسؤولية جهات أخرى في الدولة».
وبالرغم من وصف هذا القطاع بالشريف فالكل يجمع على عدم قانونيته، ولكن النائب الاقتصادي يزيد الشعر بيتاً باحترامه للعاملين في هذا القطاع، رغم عدم احتسابهم في الخطط الحكومية.. وفي العلاج. وفي هذا يقول النائب عبد الله الدردري في حديث صحفي للزميلة (الثورة): «إن على الحكومة النظر للقطاع غير المنظم نظرة احترام للعاملين فيه، وليس معاقبتهم، عندها سنكتشف ثروة مهمة بين أيدينا، وإن هذا النشاط رغم تأثيره لا يدخل ضمن الخطط الحكومية، ولا ضمن حسابات الناتج المحلي».

الحل: عدل
المشكلة أكبر من واقع اقتصادي متدن يجبرنا على التأقلم وتأمين لقمة المعيشة بأي شكل كان، نعم، تبدو المشكلة من بابها الأوسع اقتصادية محضة، البطالة، السوق المفتوحة دون ضوابط أو روادع، الدخول البخسة والغلاء، الاحتكار، فالواقع الاجتماعي للعاملين في هذا القطاع يأخذ شكلاً مأساوياً مرادفاً للاقتصادي.
ومن وجهة نظر أخرى، يرى د. الياس نجمة السبب كامناً في العقلية التي تقود الاقتصاد: «عندما تتحكم مزاجية المنع في عقول المسؤولين الاقتصاديين وغيرهم، يتضخم اقتصاد الظل، وعندما تعطى الصلاحيات المطلقة لبعض الجهات في تحديد سلوك الناس، ينتشر الفساد والرشوة».

معلومات إضافية

العدد رقم:
431