دمشق ومشاريع التشويه وطمس الهوية

بعد إقامة مدينة المعارض الجديدة على أرض شاسعة من غوطة دمشق (المفترض أنها تخضع للحماية!)، راجت الشائعات منذ أشهر عن إستيلاء أحد «رجال الأعمال الشباب» على أرض معرض دمشق الدولي القديم في مرجة الشام بشروط «ميسّرة» من أجل «تشجيع الإستثمار» و«دعم القطاع الخاص» (هذه العبارات الموضوعة بين مزدوجين هي من أهم عناوين السياسة الإقتصادية السائدة).

لكن قبل أسابيع قليلة، قطع السيد عماد الزعبي مدير عام المؤسسة العامة للمعارض (الوصية على هذه الأرض الوقفية بالأصل) دابر الشائعات بنفيه وجود أي قرار محدد بخصوص هذه الأرض، وأكد أن مستقبلها ما زال قيد الدرس في المؤسسة وسيعلن عنه بعد استكمال ذلك.

وكانت معلومات صحفية (تشرين) قد أشارت إلى وجود توجيه من السيد رئيس الجمهورية شخصياً بأن يعالج هذا الموضوع بإطار الشفافية والمؤسساتية والتوجه الحضاري، مما يعني ضرورة إخراج هذا الملف من دائرة التكالب العقاري والاستثماري إلى آفاق التخطيط العمراني المديني المتكامل الذي يليق بعاصمة سورية وحاضرة بلاد الشام. وقد فعل نبأ اهتمام السيد الرئيس فِعله في النفوس القلقة على مستقبل المدينة فيما لو تركت هذه الأرض الهامة لمصيرها المعروف على أيدي قوى الإفساد والفساد والسوق والسوء، فطلعت آراء ومقترحات على درجة من الأهمية من مواطنين يهمهم شأن المدينة، منها ضرورة استعادة الوظيفة البيئية التاريخية للموقع كمتنفس أخضر للمدينة خصوصاً بعد توسعها السرطاني على حساب الغوطتين واكتظاظها المرعب بالسكان والسيارات (علماً أن دمشق من أقل مدن العالم بمعيار مساحة الحدائق العامة بالنسبة للفرد من السكان)، أو أن يرصَّع الموقع إضافة لذلك بمرافق ثقافية ورياضية تفتقر إليها المدينة بشدة، مثل الملاعب وأماكن التريّض، ومحترفات الفن التقليدي والتشكيلي، ومتحف وطني جديد بعد أن غُصَّ المتحف الحالي المجاور ولم يعد قادراً على عرض سوى جزء بسيط من كنوزه المخزنة بشروط غير مثالية، والتي تتزايد يوماً بعد يوم نظراً لغزارة المكتشفات الأثرية. بالخلاصة ظهر إجماع لدى الحريصين على مستقبل أقدم عاصمة حية في العالم بضرورة استبعاد فساد الذوق الطفيلي والبيروقراطي بفرعيه، العقاري: الذي لا يرى في هذه الأرض إلا فرصة لتشييد العلب الإسمنتية والدكاكين والمضاربة بها، والسياحي المزعوم: الذي لا يفقه من فن السياحة إلا إقامة فنادق الخمس نجوم المترفة ولو بإفساد التكامل الحضاري والجمالي للمدينة المراد لها أن تجذب السائح الموعود. 

ولعل المثل الأخير الفاضح على فساد الذوق بنسخته «السياحية» هذه هو تشييد فندق «الفصول الأربعة» الشاهق (لصاحبه الثري السعودي-العالمي الوليد بن طلال) قبالة التكية السليمانية وعلى حساب جزء من منتزه المنشية (بانتظار ابتلاع الجزء الباقي بعد إنجاز أعمال البناء!) وبامتداد أفقي إعجازي (سبحان الذي خلقه) من الجهة الأعلى على أنقاض حارة «زقاق الصخر» التاريخية التي أقيم مكانها محال تجارية ملحقة بالفندق للتكسب من بدلات فروغها (وكله بإسم السياحة)، فقد بان للعيان منذ الآن مدى التشوه الوظيفي والبصري الذي سيتسبب به هذا المبنى «الحداثي» الهمجي المتوتر على كامل المحور المستلقي بإسترخاء من فكتوريا إلى الربوة.

و لأنه «ما حدا أحسن من حدا» ولابد لنا من إتاحة الفرصة لكل «الأشقاء» على حد سواء، يبدو أننا سنشهد قريباً «معجزة استثمارية» مشابهة لعجائب الفصول الأربعة. ففي سياق حديث مطوَّل إلى جريدة «الراية» القطرية بمناسبة عيد الجلاء، كشف سفيرنا في قطر السيد هاجم إبراهيم عن مشروع إقامة مجمع سياحي على أرض معرض دمشق الدولي بتمويل قطري. ولا نظن المقصود إلا أرض المعرض القديم نفسها. 

فإِن صح النبأ، ألا يكون هذا ضرباً بعرض الحائط بالشفافية والمؤسساتية والتوجه الحضاري؟ ناهيك عن الاستهتار بكل الآراء الحصيفة المنادية بحق المواطنين بالبيئة الخضراء والثقافة والرياضة وكف شر الاستثمار والمستثمرين عن هذا الجزء، هذا الجزء فقط، من المدينة؟ 

أين دور مجلس المحافظة المفترض أنه المؤسسة الديمقراطية الشعبية المعبرة عن إرادة سكانها، وكيف يمكن تغيير الصفة التنظيمية لمثل هذه الأرض الشاسعة في قلب العاصمة دون أخذ رأيه؟ 

إلى أين وصلت دراسة مؤسسة المعارض للموضوع، وهل كان هناك من هو أشطر منها بالدرس والتمحيص؟ وما هو رأي الأوقاف باستباحة أملاكها على هذا النحو الغامض؟

أسئلة ننتظر جواباً عنها لتبديد القلق المتجدد حول مصير هذه القطعة الهامة من أرض دمشق ومن تاريخها وذاكرة أهلها وزائريها الكثر من كل أنحاء الشام وسائر بلاد العرب. سقى الله أياماً لم نعشها، السيران إلى مرجة الحشيش حيث الخيول المحالة للتقاعد تذرع أرجاءها بهدوء وسلام والصبية يصطادون السمك من بردى الرقراق، وأياماً عشناها نتريّض في المسبح والملعب البلديين، أو نستكشف بلاد العالم في أرجاء المعرض بمبلغ زهيد بين رذاذ النوافير وصوت فيروز يأتينا من المسرح الصيفي المكشوف مع النسيم العليل مترنماً بالشآم.

آه يا شآم... أمجد ينتظرك أم بلاء على يد سماسرة الانفتاح وأساطين الإمارة والتجارة؟

 

■ بشير يوسف