من الذاكرة أجرة السفر إلى الأهل
الآن ونحن على أعتاب ذكرة الجلاء المجيد، نقرأ قول الشاعر:
وطن عليه من الزمان وقار
النور ملء شعابه والنار
تغفو أساطير البطولة فوقه
ويهزها من مهدها التذكار
وتستيقظ في خيالنا.. بل في عقولنا وقلوبنا ملاحم شعبنا العظيم، وتتراءى ملء العيون صور ثواره الأشاوس وشهدائه الميامين من بطل ميسلون يوسفق العظمة ورفاقه البواسل إلى ابطال الثورات السورية سلطان باشا الأطرس وصالح العلي وإبراهيم هنانو وحسن الخراط ومحمد الأشمر وألوف الأباة الأبرار على امتداد ساحات الوطن.. إلى صور جنودنا وضباطنا الوطنيين في معارك شعبنا إلى جانب شعب فلسطين.. وفي مجابهة العدوان الإسرائيلي على حدودنا مع الأرض المحتلة... إلى صور المقاومة الشعبية إبان العدوان الثلاثي على الشقيقة مصر.. وصورة البطل الضابط البحار جول جمال وطور بيده المدمر باتجاه المدمرة البحرية الفرنسية جان دارك... ومن حقبة خمسينيات القرن الماضي تستعيد الذاكرة بعض أحداث النضال ضد الأحلاف الاستعمارية العسكرية.. حين نهضت الجمهورية السورية شامخة في وجه كل الأعداء الذين أحاطوا بها من كل جانب: الكيان الصهيوني في فلسطين، وحلف بغداد في العراق، والجيش الأمريكي في لبنان، والجيش الانكليزي في الأردن... حينها وبالتحديد عام 1957 كنت في صفوف الجيش السوري لأداء خدمة العلم.. وبعد انتهاء دورة التدريب في سلاح المدرعات.. أعلن الاستنفار العام بدرجته القصوى عندما حشدت تركيا جيشها على حدودنا ليكتمل الطوق حول وطننا الحبيب.
واتجهت وحدات من جيشنا إلى المنطقة الشمالية لتنتشر على الحدود مع تركيا.. وهناك كنا تحت السلاح، وشاركتنا المقاومة الشعبية في حلب وعموم الشمال شرف الوقوف للدفاع عن الوطن.
يومها هب الاتحاد السوفياتي الصديق ليدافع عن بلادنا وشعبنا، وقام جيشه بمناورات كبرى على حدوده مع تركيا... مما دفعها مكرهة إلى سحب جيشها من حدودنا... لتعود الأمور إلى وضعها الطبيعي، وانتهى الاستنفار وفتح باب الإجازات... وفي الفئة التي كنت في عدادها اتفقنا على تنظيم طلب الإجازات على ثلاث دفعات وتقدم القسم الأول باسمائهم وفي ساحة المعسكر وبعد قراءة اسماء المتقدمين بطلب الإجازة، بادرنا قائد السرية بسؤاله: لماذا لم يقدم البقية طلب الإجازة؟ وقال متحمساً: إن كان السبب عدم امتلاكهم أجرة المواصلات إلى قراهم ومدنهم، فهو على استعداد تام لإعطائهم حاجتهم من النقود؟! وكان لي حظ كلام فقلت: سيدي.. لم يتقدم البقية لأننا اتفقنا على تنظم طلب الإجازة على ثلاث دفعات.. دفعة كل أسبوع ابتسم قائد السرية وعبر عن اعتزازه بجنوده... وشاركناه الاعتزاز بجيشنا وضباطه..