بشار العظمة / مهندس استشاري بشار العظمة / مهندس استشاري

بين مركز الطب النووي ومشفى البيروني هل نفقد المركز الوطني شبه الوحيد لمعالجة السرطانات؟

في خطوة بالغة الارتجال، اتخذ قرار متسرع آخر بنقل مركز الطب النووي من مكانه الحالي في مجمع مستشفى المواساة «لاحتلال» موقع ومباني مستشفى العمال المركزي في منطقة القابون مع تبديل الاسم، وذلك في سبيل (أو بحجة) التطوير والتحديث، وتحت شعار الإنجاز السريع (مشفى العمال المركزي منجز منذ خمسة عشر عاما ولكنه بالكاد يعمل حتى تاريخه)، ولمرة أخرى أيضا فإن هذا القرار غير مستند إلى أية دراسة منهجية تبريرية فنية اقتصادية معتمدة على خطة صحية متكاملة للتصدي للسرطان، أحد الأمراض القليلة التي تتزايد نسب الإصابة بها بتقدم المجتمعات.

الحاجة الى مركز/ مراكز متطورة لعلاج السرطانات بوسائط حديثة في سورية

• يتزايد احتمال حدوث السرطانات مع التقدم الصناعي  والتدهور البيئي وزيادة معدلات العمر (الشعب السوري شعب فتي ونسبة كبار السن فوق 60 عاما ما زالت صغيرة إذ بلغت 4.9% في عام 2004 ولكن هذه النسبة تتزايد باضطراد) والعادات الغذائية والحياتية السيئة (بما في ذلك ارتفاع نسبة المدخنين/المدخنات)

• اعتمادا على الإحصائيات المحدودة المتوفرة في هذا المجال فان احتمال حدوث السرطان للمواطن السوري في السنة يقدر بـ 1 بالألف، لمقارنة وضعنا بالآخرين، فان احتمال حدوث السرطان للمواطن الأمريكي في السنة هو 3.9 بالألف. تدل هذه المقارنة البسيطة أن معدلات حدوث السرطان في العالم المصنع هي أربعة أمثالها تقريبا في سورية (والبلدان النامية بشكل عام). أي يجب توقع زيادة مضطردة في هذه المعدلات.

• من الإحصائية نفسها يتبين أن عدد مرضى السرطان الجدد المتوقعين في كل سنة في سورية هو 17000 مريض جديد يتوقع أن يستمر علاجهم/متابعتهم (بشكل مستمر أو متقطع) لفترات توقع حياة كل منهم بعد اكتشاف المرض وفقا للحالة ونوع السرطان.

امكانات معالجة السرطان المتوفرة حاليا في القطر

مركز الطب النووي في دمشق:

يعتبر مركز الطب النووي بدمشق هو المركز شبه المتكامل الوحيد في القطر الذي يقوم بالتشخيص والمعالجة جراحيا وشعاعيا وكيميائيا وهرمونيا ومناعيا. تأسس المركز عام 1974 وهو بحكم مرسوم احداثه يقدم خدماته للمرضى السوريين مجانا. ولإعطاء فكرة عن النشاط السنوي للمركز المذكور نورد أدناه ملخصا لنشاط المركز وإمكاناته المتوفرة:

• عدد المرضى المراجعين للمركز (عام 2001): 539458

• عدد المرضى الجدد منهم : 7600

• موازنة المركز الجارية لعام 2003:

503 مليون ليرة سورية

• موازنة المركز الاستثمارية للعام 2003:

400 مليون ليرة سورية

• عدد الأسرة : 285

• أجهزة المعالجة الشعاعية (بالكوبالت) :

4 (تقنية قديمة نسبيا)

• أجهزة المعالجة الشعاعية ( مسرعات خطية): واحد فقط أدخل في الخدمة مؤخرا

• امكانات المعالجة الدوائية/الكيميائية (كرسي/سرير حقن دوائي) : 100

ووظائف / تجهيزات أخرى

بالاضافة لمركز الطب النووي، تقدم حاليا خدمات مبعثرة لتشخيص/معالجة السرطانات في عدد من المستشفيات والمؤسسات الصحية العامة والخاصة، وهي تعنى أساسا بالكشف المبكر وعمليات الاستئصال والمعالجة الكيميائية، ولكن المعالجة الشعاعية ما زالت عمليا (في القطاع الصحي المدني) محصورة بهذا المركز لتاريخه.

تحليلي لواقع الأمر

• أعتقد بأن انتقال مركز الطب النووي (كما كانت تسميته لعقود) بحمله القومي الثقيل كمركز وحيد لمعالجة السرطانات والكشف عنها في سورية إلى مكان آخر من غير تخطيط علمي وزمني مناسب سيؤدي الى تراجع مؤقت في الأداء (سيستغرق في تقديري ما يقارب العامين) مما سينعكس بطبيعة الحال سلبا على المرضى بالسرطان من المواطنين وخصوصا المحتاجين منهم .

• لا أدري ما هي خطة مستشفى البيروني المحدث في نقل التجهيزات الهامة التشخيصية والعلاجية الثابتة الباهظة الثمن المتوفرة لديهم، ولكنني أعتقد جازما بعدم نجاعة نقلها للمكان الجديد وبالتالي ضرورة الاستمرار في استخدامها لنهاية عمرها الافتراضي في مكانها الحالي مما سيؤدي إلى ضرورة استخدام المكانين على التوازي ولسنوات عديدة. لنتصور كيفية تنظيم تنقل، وتأمين احتياجات مئات (بل وآلاف) المرضى والمراجعين ومرافقيهم يوميا، غالبيتهم قادمة من خارج دمشق و بعضهم مقعد ، بين شرق المدينة وغربها عبر محاورها الأكثر ازدحاما في ذروة الضغط المروري؟؟

• يجيب مجتهدو التخطيط للقطاع الصحي من المسؤولين بأن الدولة رصدت (أو هي قيد رصد) مبلغ أربعين مليون دولار (وربما يورو) لإنشاء وتصميم قسم معالجة شعاعي جديد ملحق بمباني مستشفى العمال المركزي، طبعا سيحتاج إنشاء هذا القسم الجديد ( إضافة إلى المبلغ الفلكي المطلوب هذا إن كان كافيا) إلى عامين على الأقل لدراسته، بنائه وتجهيزه ؟؟ وان أخذنا ساحة الأمويين كمثال على الانجاز السريع فربما تكون هذه الفترة الزمنية أطول قليلا؟؟

• تساءلت ولماذا الأربعين مليون دولار؟ أجبت لأن المبنى الملحق سيحتوي على ثمانية مسرعات خطية بما تحتاجه من غرف أسمنتية سماكة أي حائط من جدرانها أو سقوفها هي في حدود المتر أو أكثر (للحماية الشعاعية). السؤال التالي، ولماذا ثمانية مسرعات خطية وقد شرع مركز الطب النووي بعد عقود طويلة من التأخير في إدخال هذه التقانة باستثمار أول جهاز (لمعالجة المدنيين من المواطنين) منذ أيام معدودة فقط وبشكل خجول ؟؟ كما أن عددا من مستشفيات القطاع العام والخاص هي في طريقها لتأمين هذا النوع من المعالجة المكلفة ؟

• إن هذا النوع من المعالجة الشعاعية هو أساسي ومركزي حاليا في معالجة طيف واسع من المصابين بالسرطان بالتكامل مع طرق علاجية أخرى (كالمعالجة الكيميائية أساسا). وتؤمن الدولة ومنذ مدة طويلة المعالجة الشعاعية باستخدام أربعة أجهزة معالجة شعاعية بالكوبلت إضافة إلى جهاز المسرع الخطي الجديد في مركز الطب النووي. لا بد من الإشارة هنا إلى التركيز العلمي الحالي على الأبحاث المتعلقة بآلية حدوث السرطان كخطوة أولية لمعرفة كيفية تجنب حدوثه من جهة، و لاستخدام نتيجة هذه الأبحاث في علاجه أو القضاء عليه بشكل أكثر فعالية. إن نجاح هذه الأبحاث قد يعرض طرق المعالجة الشعاعية الحالية إلى بطلان استخدامها لصالح طرق المعالجة المستحدثة، ولكن اعتماد وإتاحة استخدام الطرق الجديدة هذه (إن اكتشفت) سيحتاج إلى وقت لن يقل عن ثلاث أو أربع سنوات من تاريخ وضع التقانات أو الطرق الجديدة قيد التجربة . إن التوجه الحذر بتأمين مسرعين خطيين متطورين فقط للمعالجة الشعاعية (في المرحلة الأولى) سيلغي بشكل عملي أي خطر في هذا المجال.

• إن مجرد التخطيط لتركيب ثمانية مسرعات خطية في مستشفى البيروني هو في نظري استخفاف في التمحيص بأولويات القطاع الصحي في بلدنا الذي يجاهد لتحسين صحة أبنائه بموارد مالية محدودة (ناهيك عن صحة وجود الحاجة).

• تؤكد الإحصائيات العالمية على ضرورة توفر مسرع خطي واحد لكل 500000 من السكان وبالتالي فان حاجة سورية الحالية ككل هي في حدود 32 جهازا (شريطة توفر توزع جغرافي/سكاني مناسب). أما حاجة دمشق وريفها فهي في حدود ستة أجهزة فقط ستتوفر في المستقبل القريب ( يتوفر اثنان منها حاليا، ويخطط لتركيب عدد آخر قريبا )

مقترحات، أتمنى أن لا تكون متأخرة

• لا يمكن عمليا تشغيل مستشفى البيروني المحدث كمركز فعال لمكافحة السرطانات قبل احداث قسم معالجة شعاعية ملحق في نفس المكان، وذلك وفقا لبرنامج وظيفي واقعي مبني على التخطيط للانتشار الجغرافي للخدمات الطبية من هذا النوع عوضا عن الإصرار على تمركزها في العاصمة.

• عوضا عن إنفاق مبالغ طائلة لتحويل مشفى للعمال إلى مستشفى للسرطانات، يستحسن التركيز على استكمال مشاريع مراكز الأورام التابعة لوزارة الصحة في كل من حلب واللاذقية ( وربما قسم المعالجة الشعاعية في جامعة البعث في حمص)

• عوضا عن التفكير في إنشاء وتجهيز مستشفى بديل للعمال (لن يكون من الممكن تشغيله قبل عقود بناء على التجربة السابقة لإنشاء مستشفى العمال المركزي)، أرى ضرورة التفكير الفوري والجدي في وضع خارطة موحدة للخدمات الطبية في سورية بغض النظر عن الجهات المقدمة لهذه الخدمات لأن غياب مثل هذه الخارطة والتفكير التخطيطي الضيق كان وسيبقى أحد أسباب تعثر التنمية في القطاع الصحي . إن سوء التوزيع المأساوي للخدمات الطبية في المستوى الثالثي ناجم أساسا عن هذه التعددية الفريدة للجهات المقدمة للخدمات الطبية ولغياب التنسيق والتعاون فيما بينها.

• كحل مباشر وسريع أعتقد بضرورة إيقاف عملية انتقال مركز الطب النووي وهو أحد المراكز الصحية القليلة التي تعمل بكفاءة مميزة قياسا بظروفها، والعمل على دراسة إمكانية تطوير هذه المؤسسة في مكانها الراهن، مع التخطيط منهجيا لتطوير الأداء والاستيعاب، بالاستبدال التدريجي لبعض وحدات المعالجة بالكوبالت (وفقا لتاريخ انتهاء العمر التشغيلي للمنبع المشع والذي يمكن معرفته منذ الآن) بتجهيزات معالجة شعاعية حديثة وملائمة (مع إجراء بعض التعديلات التي لن يكون من الصعب تنفيذها)، والتخطيط لانتقال مركز القلب المفتوح من البناء مخليا المكان لصالح مركز الطب النووي. ألم يكن من الأجدى طبيا، وظيفيا، واقتصاديا أن ينقل مركز القلب المفتوح إلى مستشفى العمال المركزي كون طبيعة المؤسستين الصحيتين أكثر تشابها ولكون تجهيزاته قابلة بمعظمها للنقل ومكملة للموجود في مستشفى العمال المركزي، ناهيك عن كون تصميم مركز القلب المفتوح الحالي غير ملائم للمتطلبات الطبية الحديثة، وبالتالي تخلى الطوابق العليا من المبنى المشترك بين الطب النووي ومركز جراحة القلب المفتوح لاستخدامها في توسيع خدمات وإمكانيات مركز الطب النووي وفقا لاحتياجاته الحقيقية والأولويات؟

• إن ضعف مردود استثمار معظم منشآت الرعاية الصحية السورية ناجم ،في اعتقادي أساسا عن تخلف أنظمة إدارتها وبالتالي يتوجب الشروع فورا في معالجة هذا الجانب الهام

فلنحاول تجنب الإساءة إلى أنفسنا مرة بعد أخرى، إن كانت سمعة البيروني العطرة وطب بيمارستانات العرب ما زالت أمورا تعنينا بالفعل لا بالأقوال.