وداعاً.. عبده الشيخ سليمان (1935-2006)

ها أنت تمضي بلا صخب، حاملاً معك حقيبة الوطن، بلا أوسمة أو نياشين، ليس لأنك لا تستحقها، بل لأنك كنت تؤثر العمل بعيداً عن صخب المهرجانات وضجيج التظاهرات.

حملت الوطن طيلة خمسة عقود تبحث عن السفينة التي تندفع إلى الأمام حاملة كل هموم وأوجاع المتعبين. لم تكن تهمك ألوان الشرعة ولا من يضع يده على دفة القيادة. كنت مسكوناً بالوجع دون أن تستسلم للإخفاقات، وبقي الأمل منارة تستضيء به. لذلك لم ترمِ من يدك الراية ولم تقع في هاوية اليأس.

لسنوات طويلة أخلصت لعملك كمعلم، ولسنوات أخرى ساهمت في حملة التعريب والتعليم في الجزائر.. وكم كان فخرك عظيماً حين تتذكر أجزاء الحياة في الجزائر.

دائماً كنت تسأل عن أخبار الوطن حتى وأنت خارج من غرف العمليات ومباضع الجراحين وما أكثر الجراح باحثاً عن الشفاء الذي لم يكن همك الوحيد. وحين تنقلت من سفينة لأخرى لم يكن عبثاً اختيارك، كنت تبحث عن الشواطىء الواسعة التي تتسع لكل الناس دون حقد أو كراهية لأحد.

اختلفت في وجهات النظر وهذا حق الجميع، وكنت سعيداً وهادئاً حين تستمع إلى الآخرين، ليبقى صدرك رحباً كاتساع البيادر للقمح والشواطىء للرمل.

ساهمت في تأسيس حركة الماركسيين العرب مع محمود الأيوبي ويسار عسكري، دون أن يكون هاجسك الدور القيادي. ولكنك مضيت إلى عربة أخرى تكتشف حلمك الكبير.

وحين ترأست رابطة المثقفين في دير عطية لفترة قصيرة ـ قبل حلّها ـ كنت تدرك أن دائرة الرابطة تتسع لكل دوائر السياسة إذا أحبت الوطن.

ولأنك كذلك، لم يستطع الآخرون تحمل صبرك وطموحك، فكان لابد من إخراجك بعيداً عن سكة القطار فنقلت عام 1976 من التعليم إلى (دائرة المراعي والأغنام)!! في وزارة الزراعة، ومقرها البادية!!

ولم يكن غيابك القسري في عامي 1959، 1980 ما يستدعي منك تغيير أرقام المعادلة أو رموزها، لم تتخل عن الحقيقة ولم تساوم على العدالة.

كانت فرص الثروة كبيرة أمامك لو ارتديت القفازات السرية أو اقتنيت الهوية التي تفتح لها كل الأبواب، ولكن آثرت اليد البيضاء التي لا تتقن عدّ النقود ولا حسابات المصارف.

كانت ثروتك أسرة اغتنت بالعلم، وأصدقاء لا يعرفون التعصب ولا يميلون إلى حل الكلمات المتقاطعة.

وعلى مدى عقود شهدت أيامك انقسام الراية، ولم تقع في مصيدة الحزن واليأس، وبقيت حتى أيامك الأخيرة سعيداً بمن يسعى لتوحيد الجداول.

ها نحن في التاسع والعشرين من أيار نسير في جنازتك آتين من جداول كثيرة لنضع أزهارنا عند قبرك لعلنا نصنع باقة ورد واحدة من أزهار كثيرة.

أحلامك التي لم تتحقق، ما زال رفاق الدرب يدافعون بصبر عنها.

وداعاً أبا غسان.. الراية باقية والكلمات الطيبة لم تنهزم.