مطبات: في الدعم.. والعزلة

أذكر تماماً وبارتعاش تلك الليلة الباردة من تشرين الثاني عام 1992، كان عاماً قاسياً، وكان قلبي يقرع مثل طبل مهرج، ليس من شدة البرد، لكن من صلف الروح، شتاء لم يعد منذ حينها ليفعل بي هذا الارتعاش.

الأكثر قسوة من فقدان الشتاء البعيد، كان فقدان القدرة على تحمل ما هو أقل، القميص الورقي الذي كنت أرتديه ويرتديني.. كان من فقر وحب، طار الحب في زحمة الولوج إلى الأحياء المتسخة، أما الفقر فاستوطن كل المحلات التي كانت جميلة.
اليوم وبعد سنين طويلة، يسقط الحنان الحكومي، وتمسك الدولة عن بث الدفء في شتاءاتنا القاسية من قلة الحيلة، ومن عدم القدرة على ملء البرميل المتربع على درج السطح المكشوف على الريح.
منذ أكثر من شهر والحديث عن توزيع الدعم شاغل الحكومة وشاغل الناس، الحكومة في الطريقة، الناس في الحاجة، الحكومة التي حسمت أمرها واتخذت قرارها، والناس الذين ينتظرون القرار.. ويتوقعون الأسوأ.
الحكومة التي وجدت ضالتها منذ أن قررت رفع الدعم عن وليدها الذي أرهقها بفقره عقوداً، وأرهقته بفقره أيضاً، ومن ثم عادت لتقول إنها لن ترفع الدعم، لكنها ستعيد توزيعه بقسطاطها وميزانها، توزيعه بالعدل، وبالأخص الشرائح الفقيرة.
الطريقة الأولى كانت القسائم التي توازعها المزورون والذين يستثمرون الأزمات، ومع ذلك بلعها المواطن، إذ على الأقل تجاوز ببيعها بعض أزماته التي لا تنتهي.
الحكومة أوصلت الدعم بطريقتها التي اكتشفت فيما بعد فشلها، وأن النوايا الحسنة تشفع للذي اقترحها، إذ لم تكن الغاية سوى مساعدة الشريحة الجالسة على كومة من الديون واللهاث.
اليوم يعقد مجلس الشعب اجتماعه ليستمع إلى النائب الاقتصادي وهو يرسم الطريقة لإيصال الدعم هذا العام للمواطن نفسه، المواطن وحسب تصريح السيد الدردري الذي سيحصل على الدعم بعد أن يقدم مجموعة من الأوراق والثبوتيات والتعهدات، فالحكومة لن تلدغ من .. مرتين.
إذا كان المقصود هي الشروط السبعة للاستحقاق، فهذا يعني دوامة جديدة للوصول بالمواطن إلى القول بأن عدم الدعم أفضل من الدعم الذي سيكون هرولة جديدة لإثبات الاستحقاق، الأوراق الثبوتية من دخل لا يتجاوز 25000 ليرة في الشهر، من عدم وجود بيت آخر غير المستأجر أو المملوك، وعدم وجود سجل تجاري وصناعي وزراعي، والإفصاح عن الدخل الإضافي، وحساب مجموع فواتير الكهرباء والماء والمكالمات الخلوية والأرضية.. دوامة لن تنتهي إلا بعبارة..أرحم من عشرة آلاف على دفعتين.
مجلس الشعب فشل في إقناع الحكومة بتخفيض سعر لتر المازوت إلى 15 ليرة، وتحدث نقابيون وبرلمانيون أن خطة الحكومة في توزيع الدعم ستثير الاستياء في أوساط الشعب.. ومتى كان لهذا الاستياء أدنى صدى لديها.
ما فات البرلمانيون والنواب أن واقع الناس تجاوز هذه المفردات من زمن، الفقراء الذين هم أغلبية، يحلمون بأن تعود إلى حياتهم تلك الأيام التي كانوا يحبون من أجلها الشتاء، ويحبون الحكايا والسهرات، ويأكلون في بيوتهم اللحم البلدي، ويدرّسون أبناءهم في مدارس الحكومة، ويردّدون معهم نشيد الوطن، ويملؤون مطابخهم و(نملياتهم) بالمونة، فالمكدوس سيكون لذيذاً إذا تناولته العائلة في صباح تنعشه مدفأة المازوت.
لن يشعر مترف أو متخم بالحسرات، فالمكيف الكهربائي يستطيع نشر الدفء في منازل يكسوها الرخام، ومازوت التدفئة المركزية لن يستعصي ثمنه غير المدعوم على ساكني (الفلل) والأبراج، والسيارة مكيفة، والمطعم الذي سيقدم العشاء مكيف، والمصعد أيضاً، وكذلك الفراش.
العشرة آلاف القادمة على دفعتين لم يحدد زمنهما بعد حسب السيناريو الحكومي لن يفعلا السحر لأعضاء الفقراء المرتعشة تحت لحاف بلا وجه، أو في زاوية قصية من البيت... ربما صوت الرعد من بعيد يثير القشعريرة.
فقط أعطونا يوماً واحدة من حب.. ودعم.